الجمعة، ٧ مارس ٢٠٠٨

من السويس ـ قصة بنسيون منيرفا

بنسيون منيرفا

قصة محمود البدوى


اشتغلت فى أول عهدى بالحياة فى شركة الحاج عبد الصمد للتجارة والملاحة الدولية بالسويس ..

وكان الحاج عبد الصمد هذا أميا لايقرأ ولا يكتب ، ولكنه يحمل فى رأسه عقل " شاخت " ..

وكان متعهد جميع البواخر التى تمر بمدينة السويس ، يفرغ منها البضائع ويمونها بالأغذية والأطعمة المجففة ، وكنا نعمل فى الميناء من الصباح إلى المساء ، ونظل نتعهد الباخرة حتى ترفع السلم وتدور محركاتها وتنطلق فى عرض البحر ..

وكنت شغوفا بهذا العمل مرتاحا إليه .. لأننى اختبرت فى خلاله الحياة والناس عن قرب ، فقد كنت أصعد على ظهر المركب واختلط بالركاب وأشاهد ألوفا مختلفة من الناس من كل جنس ولون .. ولقد أصبحت لطول اختبارى أستطيع أن أميز الإنجليزى من الأمريكى من الفرنسى من الهولاندى من الصينى .. دون أن ينطق بحرف .. فلكل من هؤلاء خصائصه التى تتميز بها الشعوب ..

وكنت أفرغ من العمـل فى السـاعة التاسعة مساء .. وأجلس فى مشرب من مشارب الجعة لأتعشى .. ثم أذهب إلى البنسيون الذى أقيم فيه ، وكان يسمى بنسيون " منـيرفا " وهو بنسيون صغير فى قلب المدينة ، وكنت أسكن مع أسرة أجنبية ، واخترت غرفة منعزلة لها باب داخل البنسيون وآخر مستقل .. وكانت الأسرة تؤجر ثلاث غرف أخرى لبعض النزلاء .. كانت مؤجرة غرفة لشخص يدعى محروس أفندى وكان قصير القامة ، ناحل الجسم لا يزن أكثر من ثمانين رطلا ، ولكنه استعاض عن هذا النقص بما يكمله ، فقد كانت له زوجه فى حجم الفيل .. وقد جاءت هذه الزوجة من بور سعيد لتزوره فقط لأن إقامة زوجها فى السويس كانت مؤقته .. ولكنها استطابت الحياة فى البنسيون فبقيت شهرا وشهرين وثلاثة .. وقد أخذت هذه الزوجة منذ الاسبوع الأول من سكناى تغازلنى بشكل مفضوح ..! ولم يكن وقتى وعملى يتسعان للحياة العابثة إطلاقا ، فكنت أقابل مغازلاتها بإعراض وصدود ، ولكنها مع هذا لم تيأس واستمرت فى هجومها ، وكانت صاحبة البنسيون أرملة فى الخمسين من عمرها .. ولها بنتان ، واحدة متزوجة وتقيـم فى بور توفيق .. وأخرى دون العشرين بقليل وتقيم معها .. واسمها لندا .. وكانت لندا جميلة تجيد العزف على البيان ..

وكان هناك عجوز لا عمل له يشغل غرفة من الغرف ، وكان يتكلم كل لغات الأرض ، فقد كان قبطانا فى الميناء ، وكان دائم القعود فى البيت ، يدخن ويسكر ، وينطلق لسانه بكلام لامعنى له عن حرية الشعوب ، وحرية الملاحة فى البحار ، وعن الرجال الأفذاذ الذين نسيهم التاريخ ..

وكانت هناك سيدة إنجليزية تشغل غرفة صغيرة فى الطرقة ، وكانت تعمـل فى شركة من شركات البترول ، ولم يكن جميلة ولا قبيحة ، وكانت مغرمة بالشراب ، تشرب الويسكى على الريق ..

وكنا نجتمع فى يوم الأحد ، وهو يوم الراحة لنا جميعا على المائدة ونتغدى ونشرب ونتحدث .. ونستمع بعد الغداء إلى لندا وهى تعزف على البيان ، وإلى غناء القبطان وإلى حديث السيدة الإنجليزية عن الحياة فيما وراء البحـار ، وكان القبطان يغنى أغنية واحدة بالإيطالية ويكررها ، وكان صوته قبيحا ، وكانت معانى الأغنية السامية تبتذل من طريقته فى الالقاء ، ومن صوته الكريه .. وكان يخيل إلينا أنه يخص لندا وحدها بالغزل والغناء ، وكان إذا فرغ من الغناء ابتعد عن المجلس وجلس فى ركن مظلم من الردهة يدخن ويحدق فى الفتاة ويضع رأسه على راحته ويفكر ..

وكانت لندا تحادث الجالسين جميعا فى مرح وغبطة إلا هو ، فإذا وجه إليها كلاما امتقع وجهها وردت عليه فى جفاء ظاهر .. وكانت زوجة محروس أفندى أكثر نزلاء البنسيون مرحا وسرورا بهذا اليوم ، وكانت تطبخ لنا الأرز بالسمك .. وتضع أمامى الطبق وتسألنى رأيى .. وكنت أتعمد إغاظتها وأقول لها أنه ردىء .. وإننى أكلت أحسن منه فى الكازينو ، فكانت تزم شفتيها وتصمت حتى نفرغ من الطعام .. وكان زوجها يشتغـل فى الجـمرك ، ويعمل أسبوعا فى الليل وأسبوعا فى النهار .. وكانت حجرتها ملاصقة لحجرتى ، وبيننا باب مغلق وراءه دولاب صغير للملابس من السهل أن تحركه من مكانه . فكنت خلال الأسبوع الذى يتغيب فيه زوجها ، أخشى أن تدفعها الرغبة إلى فتح الباب ، والتسلل إلى غرفتى فى ظلام الليل .. ولم أكن أشعر نحوها بأى عاطفة مما يحسه الرجل نحو المرأة .. كنت صغيرا لم أتجاوز الثامنة عشرة من عمرى ، وكان العمل المرهق يستغرق كل وقتى وكل طاقتى .. وكنت أعود إلى البيت تعبا وأستغرق فى نوم عميق ولا أحس بشىء مما حولى إلى الصباح ..

وكانت المرأة تلاحقنى وتتقصى أخبارى .. وعجبت إذ رأيتها بعد أسبوع واحد من نزولى فى البنسيون قد عرفت كل شىء عنى .. عرفت من أين جئت ، وأين أشتغـل ، وما هو أجرى ، والمطعم الذى أتغدى فيه .. والمشرب الذى أشرب فيـه الجعة ، والحلاق الذى يقص لى شعرى .. وقد أبغضتها لهذا الفضول ..

وكانت الإنجليزية تعـود إلى البنسـيون متأخرة فى الليل مثلى .. كانت تسهر فى نادى الشركة ، وكانت غرفتى كمـا وصفت مستقلة ولها باب على السلم ، وكنت أدخل البنسيون بمفتاح معى من الباب الكبير ، لأننى لا أستطيع أن أمر على غرفة محروس أفندى وزوجته ..

واستيقظت ذات ليلة على نقر خفيف على الباب .. فتصورت أن زوجة محروس أفندى تنقر على الباب الذى بينى وبينها .. فتناومت ، وعاد النقر من جـديد .. وتسمعت وتبينت أنه على باب الغرفة الخارجى .. فنهضت وفتحت الباب .. فألفيت السيدة الإنجليزية على العتبة .. وقالت :
" أرجو المعذرة لإزعاجك .. فقد طرقت باب البنسيون فلم يرد علىَّ أحد .. ولا أحب أن أزعجهم أكثر من ذلك .. فتكرم علىَّ بالمفتاح الذى معك " ..

فتركتها واقفة فى مدخل الباب وأخذت أبحث عن المفتاح فى المكان الذى اعتدت أن أضعه فيه .. وطال بحثى ..
فقالت لى بصوت رقيق :
ـ ألا تجده ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. تفضلى قليلا بالجلوس إلى أن أعثر عليه ..

ودخلت وجلست على كرسى قريب من الباب .. وبحثت فى كل جيوبى وفى كل الأدراج ، فلم أعثر على المفتاح ..
وقلت لها بعد اليأس :
ـ سأقرع أنا الباب ..
فقالت بلهجة مؤكدة :
ـ لا داعى لذلك يا اسماعيل أفندى .. وإن فعلت هذا سأذهب إلى أى فندق ..
ووقفت حائرا .. وسمعتها تقول :
ـ سأنام على هذا الكرسى .. إلى الصباح ..
فقلت لها :
ـ بل أنا الذى سينام عليه ..
وطال حوارنا .. وأخيرا رضيت بأن تحتل مكانى وأطفأت النور .. وأغلقت عينى .. وأحسست بها وهى تخلع ملابسها فى الظلام .. ثم ذهبت إلى السرير .. ومضت فترة طويلة ، وكان الظلام والسكون يخيمان على جو الغرفة .. ثم شعرت بها تتقلب على السرير ونزلت من فوقه فى هدوء .. واقتربت منى .. وشممت من فمها رائحة الخمر ..

***

وفى يوم الأحد جلسنا جميعا حول مائدة الغداء .. فنظرت إلىَّ زوجة محروس أفندى وقالت :
ـ كان فيه حرامى بيخبط عليك أول امبارح بالليل يا إسمـاعيل أفندى ..
ـ حرامى ..؟
ـ أيوه .. حرامى ..
ـ محستش بحاجة ..
ـ لازم أنا كنت بحلم ..

ونظرت إلىَّ وإلى الإنجـليزية فى خبث .. واتجهـت إلينا جميع الأنظار ..

***

وكان القبطان لايزال متيما بابنة صاحبة البنسيون ويكاد يجن بها ..

وفى غروب يوم من أيام الصيف دخلت الفتاة الحمام لتستحم .. وكانت تتصور أن الجميع فى الخارج .. فتركت باب الحمام مفتوحا ، ووقفت تحت الدش وأخذت تغنى ..

وسمعها القبطان وكان فى غرفته وقد أغلق عليه بابه .. وخرج إليها فى هدوء يتلصص حتى دخل عليها الحمام وهى عارية .. وصرخت الفتاة .. وجـاء على صوتها جميع سكان العمارة وأخذوا يضربون الرجل .. وكان أكثرهم ضربا له زوجة محروس أفندى ..!
====================================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 15/8/1950 وأعيد نشرها بمجموعة " حدث ذات ليلة " " وفى كتاب " قصص من القنال " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006
=================================

ليست هناك تعليقات: