الخميس، ٦ مارس ٢٠٠٨

من سيناء ـ قصة طلقة فى الظلام


الأدب المصرى فى حرب 5 يونية 1967 طلقة فى الظلام

قصة: محمود البدوى



كانوا ثمانية خرجوا فى الظلام من مدينة "العريش" والعدو على مبعدة ثلاثة كيلو مترات منها .. وهدير القصف يسمع فى كل مكان ..

وعندما تجاوزوا حدود المدينة وجدوا خلقا كثيرا يتحرك مثلهم إلى الغرب ..

واكتسحت الجموع الطريق الضيق ، كانوا يسيرون فى مشقة ، وقد اختلط الحابل بالنابل ، والرجال بالنساء ، والأطفال بالشيوخ ، والعذاب يلفهم فى كل خطوة .

كانت الحرب تتحرك بسرعة رهيبة .. والحياة نفسها تتحرك فى قلوب هؤلاء المشردين بسرعة ولهفة ..

وكانت السيارات قد اختفت عن المنطقة كلها ، أخذها من سبقهم إلى الفرار .

والطريق المألوفة قـد خربت بالقنابل لتعوق المدرعات من الانسحاب ، فاضطر الأهالى إلى الاتجاه إلى البحر ، والتفرق فى صحراء سيناء ، وساروا على وجوههم .. وكانت الأرض والسماء ملفوفتين بالدخان والنار .. والطيور تطير مذعورة وريح الصيف تزفر نارا وبخارا ..
وكان القلق يعصف برؤوسهم ..

وظلوا يسيرون طوال الليل ، والقنابل تتناثر حولهم ، ودوامات الرمال تثور فى وجوههم والفراغ الرهيب الذى يحدث من الانفجار يعريهم من ثيابهم ، ويطير متاعهم من أيديهم ..

***

ورغم تفكك الجموع .. ظل الثمانية كما هم .. وكانوا جميعا من الموظفين المصريين الذين يعمـلون فى العريش ومن بينهم سيدتان .

ورغم تزايد عدد الرجال على النساء فى هذه الرحلة الرهيبة فقد استراحت المرأتان إلى الصحبة .

ولم تكن بين هذه الجماعة أية علاقة عمل أو جوار .. ولكنهم اجتمعوا على الطريق لغرض واحد ..

وساروا أولا حـذاء البحر ، والنخيل الكثيف النابت فى الماء على يمينهم يتمايل ويلطف الجو كله . فلما جاءتهم أنباء بنـزول الأعــداء من ناحـية البـحـر ، غيروا اتجاههم ودخلـوا فى الصـحراء .

وبعد نهار خانق وشمس حامية ، ورمال حارقة .. عثروا فى الليل على سيارة قديمة ، وقبل سائقها بعد مساومة طويلة ، وبعد الضراعة ، وكل ضروب التوسل .. قبل أن يحملهم إلى القنطرة شرق وهم وحظهم فى العبور .. !

وتقاضى منهم الأجر مقدما قبل أن يضعوا أقدامهم فى العربة .. تقاضى منهم أجرا باهظا كأنه سينقلهم إلى أوربا .. ودفعوا صاغرين ولم يتعجبوا إنها دقات الحرب ونوازعها الشريرة فى النفوس الوضيعة .

وقال السائق القصير العنق ، النمش الوجه ، الأحمر الشعر ، بعد أن تحرك بالسيارة فى طريق ملتوى يعرفه أمثاله :
ـ سنتعرض فى الطريق للتفتيش .. فقد نزلوا بالمظلات وهم الآن أمامنا .

ونظر للسيدتين بخبث فالتهب وجهاهما .
ثم أضاف :
ـ وأرجو ألا يكون معكم سلاح .. وإلا تعرضنا للمهالك ..
فلم يرد عليه أحد .. كان الانكسار قد سحق مشاعرهم ، وجمـد إحساسهم ، فلم يعودوا يعبأون بأى شىء يقع لهم . وكانوا قد خرجوا من بيوتهم دون أن يتزودوا بزاد الطريق ، حمـلوا نقودهم فقـط ، وتركوا كل شىء آخر ، ومنهم من نسى حتى ذلك ..

ولم يجدوا على الطريق من يبيع لهم الماء .. وشكروا الله لأنه ليس معهم أطفال .

وبعـد سـير بطىء أسرع منه المشى على القدم .. وفى جو الحرب والقصف .. فاجأتهم غارة مروعة فخرجوا جميعا من السيارة ، وطاروا على وجوههم يدفنون أجسامهم فى التلال الرملية المحيطة بهم .

***

ولمــا فتــح " إسـماعيل " عينيـه وأفـاق من غشيته ، وجــد " أمينة " وحدها هى الباقية من الثمانية ، ولم يعرف أين ذهب الباقون ، غيبتهم الصحراء فى جوفها ، أم مزقتهم القنابل.

وشكرت " أمينة " ربها لأنها وجدت رجلا بجانبها فى الليل والحرب .. وكانت قد استراحت إلى " إسماعيل " منذ ركبت معه السيارة ، استراحت إلى أعصابه الهادئه وجلده .. واشتمت فى ملامحه وطباعه النبالة .. ولم تكن فراستها تخيب أبدا فى نظرتها إلى الرجال ..

فمنذ بدأت تعمل وتخرج إلى الحياة ، وتنتقل من بلد إلى بلد ، وهى تحمل بين جنبيها ذخيرة تجارب صادقة ..

ولم تكن وهى الأنثى الشابة الجميلة إلى حد الفتنة .. ترفض البعد عن الأهل فى سبيل العمل والحصول على رزق أوسع .. وكانت بعد " العريش " تتطلع إلى العمل فى الكويت .. وليبيا .. والسعودية لتجمع لأسرتها من المال ما يبنى لهم بيتا .. " فيلا " جميلة بدلا من السكن بالإيجار ..

ولكن أحلامها أوقفتها الحرب عند وجه " إسماعيل " .

وتطلع إليها فى غبش الظلمة والصحراء فى لون الرماد ، والطلقات تصفر .. وقال بتؤدة وهو يتألم لما لاقته فى سفرها من عذاب :
ـ يجب أن نخرج من هذا المكان .. ونسرع ما أمكن .. وكنت أود أن يعطينى الله القوة لحملك . . وما أحسبك ثقيلة الوزن ..
فقالت ورغم الضنى ابتسمت :
ـ فى حدود ستين كيلو ..
ـ ليس هذا بالصعب .. إنه وزن استطيع حمـله والسير به عشر خطوات .!

ونظر إلى عينيها على اتساعهما ، تلتمعان فى الظلمة .. وقد هزتها كلماته المداعبة فى هذا الجو .
وقال وهو يجلس على الأرض :
ـ يجب أن نتخفف من حملنا لأن المشوار طويل .. وسأبدأ بنفسى .

وفتح حقيبته وأخرج حاجات قليلة وضعها فى جيبه .. وألقى بالحقيبة وما بقى فيها فى الرمال وهو يقول :
ـ انها مطمع للأعراب .. ولا خير فيها ..
وقالت بعد أن شاهدته يضع مسدسا فى جيبه .
ـ أكنت تحمل المسدس .. بعد أن حذرك السائق من التفتيش ..؟
ـ المسدس حملته من أجلك .. ومن كان يضع يده عليك سأرديه قبل أن يتحرك له أصبع ..

فانشرحت لقوله وقالت فى رقة :
ـ ولكنك ستموت بعدها ..
ـ وما قيمة الموت للمرء .. بعـد أن يشعر بأنه أدى واجبه كرجل ..

وقال وهو يشير إلى حقيبتها :
ـ والآن جاء دورك ..!
فقالت وهى تفتح الحقيبة ..
ـ انظر ليس بداخلها سوى أشياء قليلة .. ماتتزين به النساء .. ونقودى وجواهرى ، أما ملابسى كلها فقد تركتها فى البيت .. وليس معى سوى فستانى الذى أرتديه ..

وتأمل فستانها الوردى ، الذى كان لايزال منسجما على جسمها ، رغم رحلة العذاب . وكانت رشاقتها تنبع من حيوية جسمها . فبعد التمرغ فى الرمل يبدو كل شىء بعد لحظات بكل جماله الطبيعى .. العينان والشفتان .. كلها تفيض بالحرارة والفتنة ..

وكانت قد غطت شعرها الأسود المتموج بإيشـارب وخلعـت ساعتها الذهبية .. كما خلعت حذاءها .. وأبقت سلسـلة ذهبية فى عنقها لأن فى نهايتها " المصحف " ..
وأعطاها جوربه وهو يقول :
- البسى هذا .. وسنسير فى الليل .. وفى بكائر الصباح .. أما فى وهج الشمس فسنتوقف عن السير .. ونحتمى فى أى مكان نراه صالحا .

ووضعت يدها فى داخـل حقيبتها ، وأخرجـت منها حزمـة من الأوراق المالية وقالت له :
ـ ضع هذه النقود فى جيبك ..
ـ خليها فى مكانها وسأحمل عنك الحقيبة بما فيها .. ولكن ما هذا المبلغ كله ؟
ـ كنت ذاهبة إلى " غزة " لأشترى ثلاجة وتليفزيون ، وأدوات مائدة لأختى ، والحمد لله لو ذهبت ما استطعت العودة ..
ـ خذى هذا المبلغ احتياطيا للظروف .. فربما طوقونا .. وفصلوا بيننا ..
ـ معى ثلاثين جنيها ..
ـ أين .. ؟ !

واستغرب فلم يكن لثوبها جيوب .. وأشارت إلى صدرها فى خجل ..
ـ يا لبراعة النساء ..

وابتسم والليل تبدو غياهبه فى كل موضع .. وبقيت النجوم وحدها تتلألأ فى السماء بين الدخان ولهب الحرب ..

وحمل لها الحقيبة وسارا .. وعجب ـ وهو يسير إلى جانبها فى الليل والحرب ـ لما أحس به .. فقد شعر بقـوة لم يشعر بمثلها فى جسمه .. وكانت الريح الخفيفة تحرك الرمال .. ولكن سماء شهر يونية بدت صافية .. كلما خف الدخان ووهج النيران ..

وشعرا معا بوجود جسم رمادى يتحرك عن يمينهما على مبعدة مائة خطوة لا أكثر ، ثم تبينا أنها سيارة عسكرية للعدو .. وكانت تسير ببطء شديد فى طريق متعرج .. وتتـوقف لتسير .. ولعلـها ترسـل الإشارات .. وأحس "إسماعيل" بالخطر . فأمسك بيد أمينة وجذبها إلى الأرض .. فانبطحت بجانبه فى رملها وترابها .. وهمس فى أذنها .. فكتمت أنفاسها والتصقت بالرمل أكثر وأكثر .. وتخشبا تماما .. ووضع يده على مسدسه .. ثم تركه بعد أن تبين أنها مخاطرة .. فيها من الطيش أكثر مما فيـها من التعقـل .. ومـا ذنب أميـنة فهى إن نجـت من القتـل لن تنجـو من العـار ..

وأمسك بيدها وضغط وأحس بالحرارة والعرق والتراب والرمل .. أنه ترابه ورمله .. ولن يخوناه أبدا .. وراقب السيارة بعين الصقر حتى ابتلعتها الصحراء فى جوفها ..
وأنهضها واستأنفا السير ..

ولم يكن يدرى أهى خائفة ..؟ كما تخاف النساء من الليل والحرب أم لا .. ولكنه كان مستيقنا من أنها شجاعة .. وأنها سريعة الخاطر ومتحركة .. وتبين له هذا من كل الأشياء التى اعترضتهما فى الطريق .

ولم يكن يسير فى طريق يعرفه ولكنه كان بحسه يتجه إلى القنال بعيدا عن طريق الحرب .. وعن جوف الصحراء حتى لايظل فى التيه ..

سار على هدى بصيرته مستضيئا بالنجوم .. وسارت بجانبه مطمئنة راضية .. ونسى تعبه وجوعه ، ونسى قدميه وقد أخذتا فى التورم .. ولم يكن يدرى الذى جرى لقدميها ولكن كانت تتحمل العذاب فى صمت ..

وأحس بأن له هدفا وسط هذه المعمعه ، التى لم يشترك فيها بسلاح .. وهو أن يهون عليها السير ، ويحميها من شر الليل ، وشر الإنسان .

***

وقبل الفجر بساعتين استراحا بجانب تل .. بعيدا عن كل قدم يمكن أن تتحرك .. ووضع لها الحقيبة تحت رأسـها الذى عصبـته "بإيشـارب" وتمددت على الرمال وهو قريب منها.

ولما شعر بأنها نامت ، وأحس ببرد الليل ، خلع سترته وغطاها فى رفق حتى لاتوقظها حركته .

ولكنها كانت متيقظة ، وشاعرة براحة النفس واطمئنانها ، لأنها لاتزال حية وفى رفقة رجل أدركت بغريزتها كل ما فى طباعه من نبل وشهامة .. وان لم يحدثها أحد عن ذلك ..

وكانت تلاحظه بعينيها وهو على مبعدة خطوتين منها .. وتخاف عليه من حشرات الصحراء فى الليل ..

نسيت أنها فى حرب .. وما يأتى ساقطا من السماء هو شر من كل حشرات الأرض .. ولاحظت أنه لم يدخن حتى فى النهار وضوء السيجارة لايضير فى هذه الساعة ولا يكون دليلا للأعداء .. حرم نفسه من هذه المتعة لأجلها حتى لايضـايقها برائحة الدخان .. ويثير أعصابها وهى جائعة تعبة ..

كان قميصة قد اتسخ ، وتهدلت بدلته وعلق بها العرق والغبار .. وطال شعر ذقنه وبدا خشنا وعلا الشحوب وجهه .. واتسعت عيناه من الارهاق والجوع ..

كانت الصورة فى مجموعها تثير الشجن ولكنها شاقتها .. كانا فى حالة عذاب مشتركة وقد سرح بها خيالها حتى جعلها تتصور .. أنه سار فى هذا الطريق الشاق من أجل أن يحميها .. ولو كان وحده لسهل عليه الأمر .. ونجا ..

وفتح عينيه وهى تمشط شعرها ، ورأى حبات الرمال فى لون الزمرد عالقة بثوبها .. كأنها تطريز جديد عمل فيه بدقة .. فعجب للطبيعة التى تزيد من جمالها فى كل ما تفعله بها .

وقالت بعذوبة ..
ـ ألا تحلق ذقنك ؟
وضحك لمداعبتها وقال :
ـ وينقصنا الحمام أيضا .. ومرآة زينة كبيرة لك وكل العطور الجميلة التى فى العالم .. والآن هيا .. مع الجوع والعطش ..

***

ومشيا بعدطلوع الشمس على مهل ، كانا ينـزعان أقدامهما من الأرض بمشقة .. واشتد بهما الجوع وبلغ العطش مبلغه .. فظهر الشحوب على وجهيهما ، وابيضت الشـفاه وتشـققت .. وترددت الأنفاس بصعوبة .. ولكنهما كانا من الشجاعة بحيث لم يتطرق إلى قلبيهما اليأس ..

ومشيا أقل من مائة خطوة ، ثم ارتميـا على الأرض كميتين ، وأغلقا عيونهما من الشمس وأخذ هو يتشهد فى سره ..

***

وتحرك "إسماعيل" بعد ساعة وفتح عينيه وشاهد على مرمى البصر .. وفى وهج الرمال المصفرة من الشمس خيطا من الدخان يتصاعد من ظهر كوخ .. فنبه "أمينة" إلى ما شاهده وهو يشعر بالفرح .. فقد وجد خيطا من الأمل وسط ظلام اليأس .. والجوع القاتل .. وجعلها تستريح فى مكانها ..

واتجه هو نحو الكوخ محاذرا منهوكا ، ولما اقترب تصلبت رجلاه ويده على المسدس .. كانت تحدق فيه من فتحة الكوخ عينا رجل .. وجه نحيل خشن وحاجباه كثيفان ، وعيناه فيهما صرامة وتحد ..

وأظهر إسماعيل كل ضروب الوداعة واللطف .. وهو يقترب من الرجل ويقف على بابه .. ويطلب منه الماء والطعام .. واعتذر الرجل بأن الدار خاوية منذ الأمس ، فلا توجد كسرة خبز ولا قطرة ماء .. عندهم .. ولم ييأس " إسماعيل " وظل يحـاور الرجل ثم أخرج له ورقة بخمسة جنيهات ليغريه ، فتغير حال الرجل على التو .. ودخل وعاد يحمل خبزا ولبنا .. ناولهما لإسماعيل ..

وحمل إسماعيل الخبز واللبن فى ركوة ومنديل ولكن قبل أن يبعد عن الكوخ سمع المرأة فى داخل الكوخ تشتم زوجها وتوجعه بالكلام وتوبخه ، لأنه أخذ ثمنا لإطعام جائع غريب .. وظلت تصب عليه اللعنة بصوت جارح .. ثم جذبت الورقة ذات الجنيهات الخمسة منه ، وخرجت تجرى ، وأعادتها لإسماعيل ، وهى تعتذر عن جشع زوجها .. وسرته هذه الشهامة من الاعرابية .. وحكى كل شىء لأمينة وهما يجلسان للطعام .. وكان يردد :
ـ تأملى الحياة .. الخير .. والشر .. فى بيت واحد ..

وبعد أن أكلا وشبعا .. لم يستطيعا مواصلة السير إلا قليلا .. جعلهما الشبع بعد الجوع القاتل فى حاجة شديدة إلى النوم .. فناما فى فجوة منخفضة ..

واستيقظ إسماعيل " وأمينة " نائمة بجواره وتكاد تكون ملاصقة له .. وقد جعله الطعام الذى أجرى الدم فى عروقه وغير من حاله .. ينظر إليها لأول مرة كما ينظر الرجل إلى المرأة .. ويشتهيها ..

وكانت نائمة مستسلمة ، وما تكشف من جسمها ، رغم ما علق به بسبب الطريق كان لايزال يثيره ولو اقترب منها ما منعته .. ولا رفضت له رغبة .. ولقد لفتهما الحرب فى إعصارها والموت يترصد لهما فى كل خطوة .. فلماذا يحرم نفسه من متعة الدنيا ، وحياته مهددة بالموت فى كل لحظة ..

وهم بأن يقترب منها ولكنه أحس بمثل الاعصار .. يشق عينيه .. فظل جالسا مدة فى مكانه ساهما سادرا .. ثم رجع إلى نفسه يلومها على ما انتابه من هواجس وأدرك أنها كانت تحتقره لو فعل بها شيئا .. تحتقره كرجل ، لأنه استغل ظروف المكان ، وخان الأمانة التى جعلتها تضع نفسها ومالها وجواهرها فى حماه ..

ولما استيقظت من نومها .. ابتسم لها وأمسك بها من يدها واتجها إلى القنال .. وفاجأتهما غارة عنيفة وهما على مداخل القناة .. وغاب إسماعيل عن وعيه ..

ولما أفاق أحس بأثر الضربة فى صدغه .. ولا يدرى أكانت من شظية أم من الحصى المتطاير من فعل القنبلة .. وسال منه الدم ولكنه تحامل على نفسه ونهض وأخذ يبحث عنها كالمجنون .

وبعد طول البحث لم يعثر عليها . وأدركه اليأس ، وبلغ منه التعب منتهاه ، فارتمى على حافة القناة وكأنه يموت ..

***

ومضت ساعات وهو مضطجع بجانب التل يتابع بعينيه موج البحر .. وكان شهاب من نار ودخان يتفجر فى الصحراء .

وظل " إسماعيل " الليل بطوله يسمع الدوى ، ويرقب البحر ، وهو فى أشد حالات الحزن لفراق " أمينة " وقد نهش قلبه القلق عليها ولفه فى إعصار ..

ورأى فى مواجهته زورقا يقترب من شط القناة بحذر .. فنهض فى تثاقل وتعب وأخذ يتجه إليه ، ولمحه الصياد وهو يسير على الشاطىء .. فحرك الزورق ليقترب منه ..
وقال له إسماعيل :
ـ تعدينى القناة يا ريس ..؟
ـ أعديك .. ولكن انت شايف الحال ..
ـ أى حال ..؟
ـ اليهود فى كل مكان .. فى الشمال والجنوب وطائراتهم تدك .. والتعدية مخاطرة .. وثمنها غال ..
ـ أنا مستعد لما تطلب ..
ـ أعتدت أن آخذ مائة جنيه .. ولكن لأجل خاطرك سآخذ خمسين فقط ..
ـ لماذا تستغل الظروف يا ريس .. عيب .. تكفى عشرة ..
ـ قلت خمسين يعنى خمسين ..
ـ هذا كثير ..
ـ أنت حر ..

وحرك المجاديف ليبتعد بالزورق ، فارتعد إسماعيل بعـد أن أدرك أنه سيدفن فى فيافى هذا المكان كما دفن غيره ، وقال فى ضراعة ..
ـ سأدفع لك ما تريد ..
ـ النقود أولا ..

فأخرج إسماعيل المبلغ من الحقيبة وأخذ يعد له الخمسـين جنيها والصياد يحدق فى محتويات الحقيبة ..

ونزل إسماعيل فى الزورق وشد الصياد المجاديف .. واضطجع إسماعيـل فى باطن الزورق من الخـلف ، وهو يحس بتعب شديد فى عظامه ولحمه .. كانت الأوجاع قد أخذت تتوزع على جسمه كله .. ورأسه ينفجر من أشد أنواع الصداع .. فوضع رأسه على الخشب الصلب ليفلقه نصفين ويستريح .. ! وظل نائما على جنبه وظهره إلى الصياد الذى كان يجدف فى حذر وسكون ، وتكاد مجـاديفه لا تمس الماء ولا يسمع لها صوت ..

ولامست يد إسماعيل بالمصادفة معدنا صلبا صغير الحجم وهو يدس يده بين فتحات الخشب فى باطن الزورق .. وجعله حب الاستطلاع يمرسه بين أصابعه .. حتى تبين أنه سلسلة ناعمة خارجة من فتحة فى صندوق ، غيبه الصياد فى باطن الزورق .. وحدق إسماعيل فى الظلام بين شقوق الخشب فلم يتبين نوع السلسلة .. فحول وجهه إلى الصياد وسأله :
ـ أمعك ثقاب " يا ريس " ..؟
ـ لماذا ..؟
ـ أشعل سيجارة ..
ـ السيجارة تضيعنا .. اننا فى حرب ..

فأذعن إسماعيل للأمر .. وصرف ذهنه عن السلسلة والصندوق بعد أن أدرك أن الصندوق موجود غالبا فى كثير من الزوارق التى تبقى فى البحر ..

وسأل وهو يتطلع إلى وجه الصياد الجامد وكان يراه طويلا مستقيم العود .. رغم أنه يزاول التجديف كثيرا ويحنى جذعه ..
ـ عديت ناس كتير يا ريس ..؟
ـ كتير .. من يومين وأنا أعدى خلق ..
ـ وتحت أى بلد نحن الآن الإسماعيلية أم السويس ..
ـ اننا فى الخليج قريبا من السويس .. ولو كنا تحتها كنا ضعنا من زمان ..
ـ ألم تعدى سيدات ..؟

وحدق إسماعيل فى وجه الصياد وهو يلقى عليه هذا السؤال فرآه جامدا لم يتغير ..
ـ سيدات فى هذه الأهوال .. أبدا ..
كان صوته هادئا وواضحا ..
ـ بقى كتير على البر ..
ـ اننى أحاول أن أبعدك عن المخاطر .. ولذلك تحس بطول المسافة .. قربنا .. أمامنا القليل ..
ـ سأنام وعندما نصل أيقظنى ..
ـ حاضر ..
ومضى زمن ..

وأغلق إسماعيل عينيه بضعة دقائق واسترخى .. وأحس بتوقف المجاديف .. فتصور أن الزورق وصل إلى الشاطىء .. وفتح عينيه فإذا بالزورق لايزال فى وسط الماء .. ولمح فى يد الصياد شيئا غريبا .. مسدسا كبيرا من طراز إيطالى قديم .. وكان يعده للحركة الأخيرة .. ضغط الزناد .. وقد انشغل به .. فتأمله إسماعيل فى صمت وتوجس من الرجل شــرا .. مسـدس كهذا فى يده لماذا ؟ .. إنه لا ينفع فى الحرب ..

وأحس بالخوف وبالعرق على جبينه وبازدياد ضربات قلبه ..

ولكنه تمالك نفسه سريعا ووضع يده على مسدسه وأصبعه على الزناد .. وأخرجه من جيبه ، وفى اللحظة التى كان فيها الصـياد يمد يده ويصوب إلى رأس إسماعيل وهو نائم ، تحرك إسماعيل سريعا وأطلق النار .

وضاعت الطلقتان فى دوى المدافع ووهج النيران ..

***

وأحس إسماعيل بالدم يلطخ ثيابه ، وأدرك أن الرصاصة أصابت كتفه وخرجت من جسمه واستقرت فى قاع الزورق .. وحدق فى وجه الصياد وجس نبضه فتبين له أنه مات ..

وظل يبحث فى بطن الزورق حتى وجد قطعة حديد رفع بها قطعة الخشب التى تغطى الصندوق .. وكسر القفل وفتح الصندوق .. فوجده ممتلئا بالنقود والحلى ووجد سلسلة " أمينة " الذهبية ومصحفها ، فارتجف قلبه وارتعد ، وكان الزورق ساكنا فى وسط الماء ، فتناول إسماعيل المجدافين .. وأخـذ يجـدف طوال اللـيل متجها إلى "بور توفيق" ..

أدرك وهو ينظر إلى الشواطىء البعيدة أن الصياد كان يغرر به ويتجه إلى الجنوب .

ولما بلغ شاطىء " بور توفيق " ترك المجدافين وحمل فى يده حقيبة " أمينة " وكل الجواهر والنقود التى وجدها فى الصندوق ، وخرج من الزورق بعد أن دفعه برجله إلى عرض الماء ..

***

وعندما صعد إلى شارع القناة ، كان الظلام لا يزال يخيم ، والمدينة ساكنة ، بعد أن توقف الضرب ووجد أمينة جالسة تحـت الشـجر وحدها تنتظره ، وكانت حزينة وجائعة ونعسانة ..

ولما رأته استردت روحها وجرت إليه وارتمت على صدره ..

=================================


نشرت القصة بمجلة الهلال فى 9|9|1972 واعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " " وفى كتاب " قصص من القنال " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006

=================================

ليست هناك تعليقات: