الجمعة، ٧ مارس ٢٠٠٨

من السويس ـ قصة الوجه الصامت

الوجه الصامت


قصة محمود البدوى


اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى .. وفى أول عهدى بالحياة صرافا فى مصلحة حكومية ضخمة بمدينة السويس .. وكان عملى مرهقا .. ويمزق الأعصاب .. وكنت قليل التجارب فى معترك الحياة وقليل الخبرة بطباع البشر .. وأحمل قلب إنسان ، وقد استغل بعض الموظفين هذه الصفات إلى أقصى حد .. فكانوا يقترضون من نقود الخزانة .. الجنيه .. والعشرة على أن استردها منهم فى أول الشهر ..

ومع علمى التام بخطورة هذا العمل .. وما يسببه لى من نكبات ، فإننى كنت أعاوده وأكرره ، كأنه مرض قد تأصل فى نفسى . والواقع اننى كنت لا أستطيع أن أرفض طلب موظف فقير يلجأ إلىَّ ليجد ثمن الدواء لينقذ ابنه من حمى التيفود .. ووالدته من الشلل وزوجته من حمى النفاس ..

وفى الأيام الأولى من الشهر كنت أتعرض لعذاب لايوصف .. بسبب الضغط الشديد فى العمل ونسيانى المبالغ التى اقترضوها منى وأنا مشغول بعملية الصرف .. وندر منهـم من كان يتقدم عن طواعية ويرد لى المبلغ ..

وحدث ظهر يوم وأنا أغلق الخزانة ، وكنا فى السادس والعشرين من الشهر .. أن دخل علىّ حسين أفندى .. وكان موظفا معروفا بنشاطه وخدماته للآخرين .. وهمس فى أذنى يطلب عشرين جنيها .. لمسألة تتعلق بحياة وموت زوجته .. إذ أن الطبيب سيجرى لها عملية خطيرة اليوم .. ورفض اجراءها قبل تسلم مقدم الأتعاب ..

وقد طلب من بلدته خمسين جنيها بالتلغراف .. وسيصله المبلغ غدا ويرد لى ما يأخذه فى الحال ..

ولأنقذ روح إنسان من العذاب .. ولأن حسين أفندى سبق أن اقترض بضعـة جنيهات وردها .. فقد أعطيته المبلغ وخرج وهو يهرول ..

***

وفى اليوم التالى لم يحضر المكتب .. وتصورت أنه شغل بالعملية التى أجريت لزوجته .. وجاءنى فى اليوم الذى يليه معتذرا بأن أخاه لم يرسل له المبلغ الذى طلبه بالتلغراف وأنه فى غاية الأسف لما حدث ، وعلى أى حال فقد اقتربنا من أول الشهر .. وبمجرد تسلم ماهيته سيرد لى المبلغ ..

ولما أفهمته خطورة الأمر لأنها نقود حكومة .. وسأتعرض بسببهـا للفصل والسجن .. قال باسما :
" هـذه مسألة بينى وبينك .. فمن الذى سيعرفها .. خليها على الله .. وإذا حـدث تفتيش ولا قدر الله .. سآتيك بالمبلغ بعد خمس دقائق .. اطمئن " ..

وكان لبقا وسريع الحركة .. وقال هذا وانصرف سريعا كعادته .. ولم يستغرق اطمئنانى سوى لحظات .. وبمجرد انصرافه عادت إلى رأسى الهواجس والخواطر العاصفة من جديد ..

وفى أول الشهر انتظرته حتى الساعة الثالثة بعد الظهر .. وكان يصرف من البنك .. ولكنه لم يأت .. فاستأت جدا ..

وكان من عادة الباشكاتب أن يجرد الخزانة فى اليوم الثالث أو الرابع من الشهر ، فاطمأننت أنه لن يحضر اليوم .. وأغلقت الخزانة .. وسألت ساعى المكتب عن بيت حسين أفندى فعلمت أنه فى حى الأربعين .. وقصدته مباشرة قبل أن أتناول طعام الغداء ..

***

وطرقت بابه حوالى الساعة الرابعة مساء ، وفتح لى الباب طفل .. فسألته :
ـ بابا موجود ..؟
ـ لا .. مش موجود ..
ـ ما تعرفش هو فين .. أنا عاوزه ضرورى ..
وسمعت صوت سيدة فى الداخل تقول :
ـ مين بيسأل ..؟
ـ أنا إبراهيم .. الصراف .. زميله فى المصلحة ..

وخرجت السيدة سافرة فى الحال .. وكان على صدرها رضيع .. وسألتنى بلهفة :
ـ حضرتك .. جايبله الماهية ..؟
ـ حسين أفندى يا هانم .. بيصرف من البنك .. وأنا جاى علشان مسألة بسيطة ..

وخيبت هذه الكلمات ظنها .. فتغير لونها .. وضاع بريق الأمل من عينيها ..
وسهمت قليـلا .. ثم عادت وذكرتنى واقفا على الباب فقالت برقة :
ـ اتفضل استريح .. يمكن ييجى دلوقت ..

وحرك الرضيع يده على ثوبها فكشف صدرها .. فعادت تخفيه باضطراب وخدها يرف لونه فى حمرة التفاح ..

هذه هى السيدة التى حدثنى أنه أجرى لها العملية الخطيرة .. ذلك الكذاب الأشر ..
ـ وألاقيه فين دلوقت يا هانم ..؟
ـ والله مش عارفه بالضبط .. لأنه ماجاش من امبارح ..
ـ نايم بره ..؟
ـ أيوه ..
قالت هذا بصوت خافت وزمت شفتيها .. كانت تبلع ريقها بحرقة ونظرت إليها بتأمل .. ورأيت شابة فى السابعة والعشرين من عمرها بيضاء سوداء الشعر .. وعلى وجهها النضير الأسى .. وفى عينيها القلق الذى يحول سواد العين إلى زئبق .. وكان ثوبها سامريا .. يخفى كل تقاطيع جسمها .. وكان الباب نصف موارب ..
فعادت تقول بصوت خافت :
ـ اتفضل ..
ـ متشكر .. أنا أصلى مستعجل ..

ورأيت ألا أحرجها بكثرة الأسئلة .. ولكننى وجهت هذا السؤال الأخير قبل أن أنصرف :
ـ هو سافر ..؟
ـ أبدا هو فى السوبس .. سهران مع أصحابه ..

واحمر وجهها .. وتعلق بثوبها طفل صغير فى هذه اللحظة غير الطفل الذى فتح لى الباب .. ورفع رأسه إليها .. وأخذ يردد :
ـ جعان يا ماما ..
ـ حاضر يا حبيبى ..

وكانت تسكته برقة .. ثم خفت صوتها .. وتحركت الدموع فى مآقيها .. وكأنما لسعت بالسياط فأسرعت وهبطت درجات السلم ..

***

وكنت أقيم فى لوكاندة أبولو .. بشارع السكة الجديدة .. وكان مخالى صاحبها عجوزا يونانيا .. طيب القلب .. وكانت أسرته تقيم معه فى نفس الفنـدق .. وتقـوم بأعمال الطهى واعداد الطعام وكى المفارش .. والملايات .. وكان الفندق مع نظافته قليل النزلاء . ولذلك كان مخالى يشتغل فى عملية أخرى مربحة .. كان يستورد صنفا ممتازا من الشاى .. ويوزعه على نطاق محدود ..

وكان بطبعه ثرثارا كأبناء جنسه .. وكان يحدثنى دائما عن أمجاد الأغريق القدماء وكنت أضيق بثرثرته وزهوه .. ولكننى أعجب به لأنه لم ينس موطنه الأصلى مع أنه تركه من سنين طويلة وظل يتفاخر به مع انقطاع كل صلاته ..

وكانت تقيم معى فى نفس الجناح بالفندق راقصة متوسطة العمر تدعى درية .. وكانت تشتغل فى ملهى " النجوم " على طريق الزيتية .. وكانت ناضجة الأنوثة وحلوة .. وتحرص على ألا يزورها أحد فى الفندق على الاطلاق .. وكانت تقضى معظم النهار .. فى غرفتها .. وفى العصر تخرج إلى الشرفة .. أو تجلس فى البهو الداخلى تتحدث مع أسرة مخالى ..

وكانت تنظر إلىَّ دائما نظرة مودة .. وأرى فى عينيها الرغبة فى أن تكون على صلة بى .. ولكننى كنت أقطع هذه الرغبة بحد السكين .. لأننى كنت فى الواقع أقدر مدى ما تسببه لى العلاقة بامرأة من هذا الطراز من اضطراب .. وكنت أحرص على أن أظل فى عزلتى وتقشفى لغرض واحد .. غرض نبيل وسام .. وكان أسمى عندى من كل شىء فى الوجود .. فقد كنت أعول والدتى وأخوتى الصغار فى القاهرة وأرسل لهم كل شهر أربعة جنيهات من مرتبى وأبقى الستة جنيهات لطعامى وشرابى وسكنى .. فهل تكفى الجنيهات الستة لأن أتعلق براقصة ..

ولكننى أحسست عندما شاهدتها هذا المساء فى شرفة الفندق بعد عودتى من منزل حسين أفندى .. برغبة شديدة فى محادثتها وأن أقص عليها ما جرى لى وأن أسمع صوتها ..
وكنت لا أستطيع تعليل ذلك ولا أعرف له سببا ..

وكان القلق يعذبنى .. ويسوءنى أن يكتشف العجز وأنا فى أول عهدى بالوظيفة والباشكاتب ورئيس المصلحة ينظران إلىَّ كشاب نادر المثال فى عمله وأمانته ..

ولم أمكث طويلا فى حجرتى بالفندق .. وجدت الغضب يدفعنى لأن أرتدى بدلتى مرة أخـرى .. وأخرج لأبحث عن الرجل الذى خدعنى .. أبحث عنه فى المقاهى التى فى المدينة وكنت فى كل خطوة ازداد سخطا عليه وأود لو أخنقه ..

وكانت صورة بيته وزوجته وأولاده .. والحالة التعيسة التى وجدتهم عليها تطوف فى رأسى .. فتزيدنى سخطا عليه ..

***

وحتى الساعة التاسعة ليلا لم أكن قد عثرت عليه فى أى مكان فى المدينة تصورت أنه يقصده ..

وأخيرا اتجهت إلى بيته مرة أخرى .. إذ لم يكن عندى من الصبر ما يجعلنى انتظر إلى الصباح ..

وكان الشـارع كئيبا وخافت الضوء وبيته أشد كآبة مما رأيته بالنهار ..

وسمعت وأنا أصعد السلالم إلى شقته .. صوت شجار بالداخل .. ثم تبينت صوته بوضوح .. فشعرت بالاطمئنان ، فقد كنت كمن فقد شيئا فى قاع المحيط .. ثم عثر عليه بعد عذاب وجهد ..
ولما قرعت الباب انقطع صوت الشجار ..

وخرجت لى زوجته بنفس ثوبها الذى رأيته عليها من قبل وطالعنى وجهها الصامت .. وكانت قد مسحت عبراتها ، ولكن ظلت العينـان نديتين .. وانسانهما مسترخيا ومستسلما لحكم القدر ..

ولاح شبح ابتسامة وقالت بصوت ناعم دون أن أسألها :
ـ أيوه موجود .. دقيقة واحدة ..

وخرج لى حسين أفندى بعد لحظات ، ولما وقع بصره علىَّ امتقع لونه .. وظهر أثر الاضطراب على وجهـه .. ثم غالب نفسه ليبدو طبيعيا .. ودعانى للدخول .. وجلسنا فى حجرة صغيرة وكان بها كراسى من الجوت الممزق والغرفة كلها توحى بالكآبة .. وأخذ يحيينى بعد كل دقيقتين ..

وطالبته بالعشرين جنيها .. فقال لى أنه سيحملها إلىّ فى الصباح ..

فقلت له " اننى شبعت من الوعود الكاذبة .. ولن أخرج من بيته إلا والمبلغ فى جيبى .. وليس هناك من سبب يجعلنى أضحى وأعرض نفسى للسجن بسببه "..

فصمت طويلا .. ثم وجدته ينفجر باكيا مرة واحدة ، وقال لى أنه أضاع المبلغ مع ماهيته فى القمار ..

ولما سمعـت لفظة القمار انتفضت .. فلم أكن أتصور أنه يقامر أبدا .. ولم يحدثنى أحد من زملائه عن ذلك .. وكنت أفضل أن يقول لى أن المبلغ ضاع منه ، أو أنه صرفه على أى وجه من الوجـوه .. أما أن يقامر بفلوس الحكومة فهو شىء لا أغفره له ..

وقلت له بصوت جهورى وأنا فى شدة الغيظ :
ـ أريد المبلغ فى الحال ..
ـ ومن أين أجىء به ..؟
ـ ليس هذا شغلى .. تصرف ..
وتطور الكلام إلى عراك .. وأمسكت بتلابيبه وأنا فى بيته .. وكنت أقوى منه عشر مرات ..

وفى هذه اللحظة رأيت زوجته فى الصالة بوجهها الصامت المعبر عن كل ضروب الأسى .. ودخل علينا ابنه الصغير .. ولا شك أن أمه هى التى دفعته إلينا فى هذه اللحظة ، فخجلت وتركت عنق والده المقامر ..

ورأى حسين أفندى أن يخفف حدة الأمر ، فكتب لى شيكا على البنك الأهلى ، ولما ذهبت إلى البنك لم أجد له رصيدا ..

وكان فى يدى مستندا يزج به فى السجن .. وكلما فكرت فى أن أتقدم بالشيك إلى النيابة ، كانت صورة زوجته وأولاده الصغار تعود وتحتل رأسى .. فأشعر بالشفقة عليه .. وأتراجع ..

***

وظللت أكتم الأمر كلية عن الجميع حتى أجد حلا .. ولم أجد من الموظفين من يستطيع أن يقرضنى هذا المبلغ أو حتى نصفه .. وكان أهلى
فقراء .. يعيشون عيش الكفاف ..

وكنت أرسـل جزءا من مرتبى لوالدتى واخوتى الصغـار فى القاهرة .. وبهذا المبلغ الصغير .. كانوا يعيشون فى بساطة وفقر .. ولم أكن أحب أن أجىء بهم إلى السويس .. لأننى كنت سأتحمل نفقات السكن .. وكانوا يقيمون هناك فى بيتنا الصغير ..

وكانت والدتى مدبرة فى بيتها ، ولا تحب أن تتضاعف مصاريفنا فى البلد الغريب عليها .. ونغرق فى الديون ..

وكنت أدفع للفندق فى السويس جنيهين فقط ايجارا للغرفة مع غسل وكى ملابسى .. وكنت أسعى لأن أنتقل إلى القاهرة لأعيش مع أسرتى .. لأنهم كانوا فى حاجة إلىّ ..

وكان انقطاع المبلغ الصغير الذى أرسله لهم معناه عذابهم وموتهم جوعا ..

وكنت أفكر فى هذه المسألة أكثر من أى شىء آخر وأجعل وجودى فى العمل مقرونا بحياتهم ..

وكنت قد حرمت نفسى من كل متع الحياة من أجلهم .. فلم أكن أسهر فى الملاهى مع أنها كانت رخيصة فى ذلك الحين .. وكان الذهاب إلى السينما لا يكلفنى غير بضعة قروش ، وكنت أحرم نفسى من هـذه المتعة .. لأن القروش أحق بها والدتى واخوتى ..

وكانت السينما تعرض أعظم الأفلام لأعظم ممثلين فى العـالم ..

كانت جريتا جاربو ومارلين ديتريش واميلى جانينجز .. وليون شانى .. وشارلى شابلن يهزون مشاعر الجماهير ..

ولكننى كنت أكتفى بأن أجلس ساعتين فى يوم الجمعة فى مقهى المنظر الجميل أشم نسيم البحر .. ثم أعود إلى الفندق ..

وقد جعلنى هذا لا أعرف إلا قليلا من الناس فى المدينة .. وكانت دائرة المعرفة لا تتعدى موظفى المصلحة ..

وقضيت الليل .. أفكر فى خليل أفندى وفى مدكور .. وبرعى .. كما فكرت فى الراقصة درية المقيمة معى فى نفس الفندق .. ولكننى خجلت من أن أقترض مبلغا من راقصة ..

***

وفى اليوم الثالث من الشهر دخل علىَّ الباشكاتب الخزانة قبل أن أشرب قهوة الصباح وطلب جرد الخزانة .. فتصورت حسين أفندى أخبر بعض زملائه بالمبلغ الذى أخذه وجاء الباشكاتب يضبط الجريمة ..

وأخرجت العلبة التى أضع فيها أوراق البنكنوت ووضعتها على المكتب وأنا أرتعش من الخوف ، وقلبى يضرب كالمطرقة .. وسمعت الرجل يقول وأنا أفتح العلبة :
ـ النقود تمام ..؟
ـ تمام ..
ـ لا داعى للعد .. هات كشف الجرد .. أنا مطمئن تماما ، ووقع الكشف وهو يقول :
ـ أصلى مسافر بور سعيد .. وحغيب يومين .. قلت لازم أتمم على الخزنة .. أنت يا ابنى أمين .. ومخلص فى عملك ..

ولسعتنى هـذه الكلمات وكنت أود أن ألحق به .. وأحدثه بما جرى .. ولكننى تسمرت فى مكانى .. وبعد أن تركنى .. وجدت العرق يسيل على جبينى ..

ولما جلست إلى المكتب وشربت القهوة شعرت بالراحة تعود إلىَّ وفكرت فى أن الله أراد أن ينقذنى .. وجعل الجرد على هذه الصورة .. وأن المسألة ستمر بسلام .. وفى خلال الأيام التى تسبق الثانى .. سأكون قد استطعت أن أسترد المبلغ .. وشعرت بالاطمئنان ..

ولكن حدث ما لم أكن أتوقعه أبدا .. فقد قدم أحد المفتشين من القاهرة وجرد النقود .. واكتشف العجز .. وطلب منى أن أسدده فى الحال اشفاقا على مستقبلى .. فأخرجت الثلاثة الجنيهات الباقية فى جيبى من مرتبى بعد سداد ايجار الغرفة .. وعجزت عن الباقى ..

واتهمت بالاختلاس وأحـلت إلى النيابة .. فأمرت بالقبض علىّ ..

وسرت اشاعة بين الموظفين .. بأن الراقصة التى تقيم معى فى الفندق هى معشوقتى وأننى صرفت عليها المبلغ ..

ومن الغريب أن الموظفين الذين كنت أقرضهم وأساعدهم هم الذين كانوا يشيعون هذا الكلام ويروجونه بكل الوسائل .. وانطلقت حولى الألسنة ترمينى بالباطل .. بأنى سكير .. وزير نساء .. ومقامر .. انطلقت الألسنة مرة واحدة ..

ولم يذكرنى أحد من الموظفين بالخير .. وكان السعاة والفراشون هم الذين يشفقون على حالى .. ويزوروننى فى السجن ويحملون إلىّ الطعام على نفقتهم ..

وبقيت فى السجن أربعة أيام ، وفى اليوم الخامس خرجت .. وعلمت أن خليل ساعى المكتب دفع المبلغ للنيابة وادعى أنه عثر عليه فى حجرة الخزانة ليحاول انقاذى ..

واكتفت المصلحة بفصلى من العمل وحفظ التحقيق الجنائى ..

***

ولم أكن أحب أن أعود لوالدتى لأنى سأقتلها من الحزن ..

وعدت إلى الفندق بعد غياب خمسة أيام .. وأنا شاعر بالتعاسة وأتصـور أن عيون الناس تمزقنى فى كل خطوة ، وقد كانت المدينة صغيرة ، وعملى يجعلنى معروفا للجميع ، وحـادث القبـض علىّ قد انتشر فى المدينة ..
واحتبست فى غرفتى وكنت فى حالة اعياء وجوع ..

ثم شعرت بالمرض .. واشتدت علىّ العلة .. فلم استطع التحرك من الفراش يومين كاملين ، وفتحت عينى ذات ليلة فوجدت درية بجانب فراشى .. تنظر إلىّ بعطف .. والظاهر أنها سمعت الخبر ..

وأخذت تمرضنى حتى شفيت .. وأصبحت أستطيع أن أتحرك ..

وأدركت بعد خروجى من الحبس قيمة الحرية بالنسبة للإنسان ، فهو الذى يشوه حياته بيديه ويجعل حوله القضبان ، ومهما يكن الغرض الذى من أجله أعطيت للرجل هذا المبلغ .. فقد أخطأت .. وأنا أستحق هذا العقاب ..

ولقد أكسبنى هذا الحادث تجربة هزتنى .. وخرجت منه وأنا أحس بأننى أشد فهما للحياة وأكثر جسارة ..

وقالت لى درية ذات ليلة ونحن فى الشرفة :
ـ أنا عازماك الليلة .. على أكلة جمبرى سويسى ..
ـ بمناسبة ايه ..؟
ـ شفاك ..
وأكلنا أكلة شهية ..

وفى آخر الليل أحسست بحاجتى لأن أنام فى حضنها .. كنت فى حاجة إلى الحنان .. وإلى انسان يفهمنى ويرد إلىّ روحى .. ووضعت شفتى لأول مرة فى حياتى على فم أنثى ..

***

وانقضت أيام .. ولم يكن معى نقود على الاطلاق .. ولم أفكر فى أن أقترض شيئا من الخواجه مخالى ، أو أذهب إلى أحد ممن أعرفهم ..

وكانت درية تحاول أن تقدم لى أية مساعدة ولكنها تخشى أن تجرح احساسى وأنا فى محنتى فينقلب العطف إلى النقيض .. واكتفيت بأن أتناول وجبة الغداء فقط فى المطعم الذى كنت آكل فيه ، وكان صاحبه على ما يبدو لا يعرف ما حل بى .. أو يعرف ويتجاهل ، فإنه كان أمينا فى عمله ويحرص على الزبائن .. وكنت أفكر فى والدتى وأخوتى هناك فى القـاهرة عندما يحل الشهر الجديد ولا يصلهم المبلغ الذى به يعيشون ..

وعضنى الجوع فأخذ ذهنى يشتغل وكنت أشاهد من نافذة غرفتى شابا مقطوع الرجلين يزحف على الرصيف معتمدا على يديه فى بطء واصرار .. ويبيع للمارة أوراق اليانصيب .. وما أقل المشترين منه ، ولكنه كان يظل طول اليوم يكافح ويلف ويدور .. فهل يعمل هذا الكسيح وأظل أنا قابعا فى مكانى ..

واقترب موسم الحج ، ولاحظت أن الفندق مع رخصه ونظافته قليل النزلاء .. فتحدثت مع صاحبه .. وأخذنا نفكر معا فى سبب هذا الركود .. ثم رأينا أن بعده عن محطة السكة الحديد وعن الأنظار هو السبب الجوهرى .. وأشرت عليه بأن يطبع اعلانات صغيرة عن مكان الفندق وأسعار الغرف فيه .. ويوزعها على القادمين إلى المدينة فى القطارات والسيارات ..

ونجحت الفكرة .. وتدفق على الفندق النزلاء .. حتى ضاقت بهم الحجرات .. وأصبح مخالى يضع الأسرة فى الطرقات والممرات .. ولم يكن عنده كاتب فى الفندق لأنه لم يكن فى حاجة إليه .. فلما كثر النزلاء .. استعان بى لأقيدهم فى الدفتر وأحصل أجورهم .. وعرض علىّ ستة جنيهات فى الشهر نظير هذا العمل .. فقبلتها .. لأننى كنت أود أن أتعلق بأى شىء يسد رمق أسرتى .. وكان يوم الثلاثاء هو يوم أجازتى من العمل فى الفندق ، وكنت أذهب فى هذا اليوم إلى الجمرك لأنجز بعض أعمال الخواجه مخالى الخاصة باستيراد الشاى ..

وقد اكتسبت من ترددى على الجمرك خبرة تامة بالتجارة وأعمال التخليص والشحن فى الميناء ، ولاحظت أن التجار يعانون مشقة بالغة فى اخراج البضائع من الجمارك .. وفكرت فى مساعدتهم كلما سمح لى الفراغ لأوسع رزقى .. واستطعت فى مدى شهور قليلة أن أحصل على مبلغ يوازى مرتبى فى الحكومة .. وأن أرسل لوالدتى المبلغ الذى كنت أرسله .. ولكننى لم أستطع أن أسدد دين خليل ساعى المكتب .. ورأيت أن أذهب لبيت حسين أفندى ومعى الشيك .. لعله يخجل ويعطينى المبلغ أو جزءا منه ..

ولما وقفت على الباب .. سمعت صوت ماكينة حياكة فى الداخل .. وطلعت لى زوجته وفى يدها قطعة من القماش .. وكان وجهها أكثر صمتا من قبل .. ولكنه كان ظاهرا عليه التعب بوضوح ، وأثر الجوع فى العينين الذابلتين .. وفهمت من الكآبة الصامتة التى طالعتنى من البيت ما وصـل إليـه حالها .. وأنها أصبحت حائكة ثياب لتطعم أطفالها .. وأن حسين أفندى لم يعد يرجى منه شىء على الاطلاق .. ومزقت الشيك وأنا نازل على السلم ..

***

واتجهت إلى العمل بكل قوتى .. وكان هناك حافز يحركنى .. وازداد نشاطى وسددت دينى .. ورأيت أن أستقل بعملى .. وأن أتاجر فى الشاى وأبدأ بداية صغيرة ..

وفى خلال عشر سنوات كونت ثروة .. وأصبحت من أشهر تجار الشاى .. فى السويس ..

وقد علمنى الحادث الأول الحـذر والحيطة من الناس والتسامح .. كما عرفت قيمة الحرية فى العمل والكفاح والانتصـار على الحيـاة ..

وماتت والدتى فى خلال ذلك وتزوجـت أختى سعـاد .. كمـا تزوجت بهية وسعدت بزواجهما .. ولكننى أحسست بالفراغ ..

وكانت درية .. مسرورة بنجاحى .. وأصبحت تنتقل من ملهى إلى ملهى وتعمل يوما وتتعطل عشرة .. وكبرت .. وأحست بأن شمسها قاربت على الأفول .. وأن أصحـاب الملاهى .. لم يعودوا فى حاجة إليها .. فكان ذلك يمزق روحها ..

وكنت أغافلهـا وأضع لها أوراق البنكنوت تحت المخدة .. وتصحو .. فتجدها .. وتعرف أننى أنا الذى فعلت هذا .. وتقابلنى بعينين نديتين أبدا .. وتود أن تحرك شفتيها لتقول شيئا .. ثم تعود وتصمت .. وفى عينيها أبلغ كلام ..

***

وذات ليلة .. وكنت قد عبرت شريط السكة الحديد متجها إلى سكة الزيتية .. وجدت رجلا أعرفه .. جالسا على الرصيف .. وكان يرتدى بدلة قديمة باهتة اللون .. وقميصه متسخا .. وطربوشه بجانبه .. وكان شـعره نابتا على ذقنه وأسنانه الصفراء .. تبدو من شفتين مشققتين .. وعيناه أشد كآبة .. وكان حوله الأطفال يسخرون منه وكان يشتمهم فيبتعدون عنه .. ثم يعودون يتجمعون عليـه من جـديد وهم يضحكون ويرمونه بالنكات اللاذعة ..

وكان حسين أفندى عاجزا عن الحركة من فرط السكر ..
وحملته فى عربة إلى بيته ..

وفتحت لى زوجته الباب .. وقد أنكرتها .. فقـد تغيرت وكبرت جدا .. وذهب جمالها كله وانطفأ .. ولكن بقيت النظرة الإنسانية الدافقة فى عينيها .. النظرة المحيرة للألباب .. التى منعتنى من أن أسىء إلى زوجها .. كما أساء إلىّ .. النظرة الصامتة المعبرة التى هزتنى وعلمتنى كيف أمضى فى الحياة وأواجه الشر الذى فى قلوب البشر ..

ونقلناه فى اليوم التالى إلى المستشفى ، وكنت أود لو يموت .. لأفعل شيئا جديا لهذه السيدة المسكينة وأرعى صغارها ..
ولكنه عاش .. وظلت تجاهد ببسالة ..

وظللت أتوقع موته فى كل لحظة .. فإن هاتفا قويا كان يحدثنى من أعماقى بأن أظل بجـانب هـذه السيدة حتى أعصمها من الجوع والدنس ..


====================================
نشرت القصة بمجلة الجيل 16/11/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " 1956وفى كتاب " قصص من القنال " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006
====================================

ليست هناك تعليقات: