الجمعة، ٧ مارس ٢٠٠٨

من السوبس ـ الإعرج فى الميناء

الأعرج فى الميناء

قصة محمود البدوى

عندما ذهبت إلى السويس ، لأول مرة فى حياتى ، لم تكن الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت .. ولم يكن الإنجليز يعسكرون فى مدن القناة ، وإنما كانت الحياة هادئة جميلة فى تلك المدينة ..

وكنت أعمل صرافا فى مصلحة كبيرة .. أصرف الأجور والمرتبات لآلاف من العمال والموظفين الذين يعملون فى الميناء ..

وكان العمال يصرفون أجورهم مرتين فى الشهر ، والموظفون مرة واحدة فى اليوم الأول من الشهر ..

وكانت هذه الأيام الثلاثة من أشق الأيام .. وكان أسوأ ما فى المسألة أننى أصرف الشيك من البنك الأهلى فى سكة الزيتية .. ثم أذهب بعد ذلك إلى المحافظة لاستبدال بعض أوراق البنكنوت بالعملة الفضية والنيكل والبرونز .. ولهذا كنت أتأخر فى الصرف إلى الساعة الرابعة بعد الظهر .. وأخرج من المكتب إلى الفندق وأنا محطم تماما ، فأتمدد على الكنبة إلى الغروب .. ثم أذهب إلى مشرب من مشارب الجعة المشهورة فى هذه المدينة .. وآكل الجمبرى السويسى والسمك المشوى .. وبغير الجعة والفوسفور فى السمك كنت لا أستطيع أن أنام بعد العمل الشاق والارهاق العصبى المدمر ، وأنا أصرف ثمانية آلاف من الجنيهات وأنا واقف على قدمى .. وكان المتعب فى العملية الناس الذين يطلبون الفكة .. والفضة الجديدة .. ويرفضون بعض أوراق البنكنوت كأنها مزيفة .. ويأتى بعد الرجال .. المطلقات اللواتى يصرفن النفقة .. وكانت الواحدة منهن لا تستطيع أن تعد أكثر من عشرة .. وتحسب فى كل مرة أن نقودها ناقصة وأننى سرقتها .. ومنهن من كانت تتهم زوجها بسرقة ختمها .. وارسال واحدة بدلها ..
وكانت هذه الحوادث لا تنتهى أبدا ..

***

وكنت مع تعبى الشديد والخوف من العجز .. أجد لذة محببة فى دراسة هذه الوجوه التى تقف أمامى على شباك الصرف .. وأرى فى بعض النساء وجوها صباحا تصرخ بالفتنة فأهدأ .. وأكون كمن أعطى حقنة مورفين وهو فى أشد حالات الهياج العصبى ..

وكان عملى مستقلا عن عمل الموظفين .. ومكتبى فى غرفة تطل على البحر .. ومن نافذتها كنت أشاهد ما يجرى فى الميناء ، وأرى البواخر الضخمة وهى تعبر القناة .. منطلقة فى عرض البحر وراسية فى الحوض الجاف .. ومفرغة حمولتها على الرصيف .. داخل النطاق الجمركى .. وأرى العمال وهم يعملون ويغنون وعلى أكتافهم الأحمال الثقيلة ويجرون على السقالات والأرصفة وعرقهم يتصبب ..

وكنت أصطفى اثنين من الموظفين بالمودة .. شاهين أفندى وكان فى قسم الادارة بالمكتب وأمين أفندى وكان مهندسا فى الميناء وكان أعرج .. ويعد من أبرع المهندسين فى المصلحة على الاطلاق ..

وكنا نجلس نحن الثلاثة يوميا .. على " قهوة " فى مدينة السويس نسمر إلى منتصف الليل ثم يذهب كل واحد منا إلى بيته ..

وكان بيت أمين أفندى من طابق واحد على سكة الزيتية .. وقريبا من البحر .. وكان أمين أعزب ولا يقوم على خدمته أحد .. وكان يأكل فى الخارج .. ويعطى ملابسه " للمكوجى " .. وينظف له البيت أحد الفراشين فى المكتب من حين إلى حين .. وكان مع عرجه رياضيا ويحب المشى .. ويستحم فى البحر يوميا قبل الشروق .. فى الصيف والشتاء .. وأحسبه الوحيد الذى كان ينزل إلى البحر فى تلك المنطقة .. لأنها كانت مشهورة بحيوان " القرش " وكان يعرف هذا ولكنه لم يكن يخشى أى شىء فى الحياة ..

وكنت أسمع أنه يشتهى النساء ولكنه لم يكن يتحدث عنهن أمامى كشىء يشغل البال ..

وكنا نجلس فى مسـاء الأحد على طريق البحر ، ونرى أسـراب النسـاء الخارجـات للتنزه وكان معظمهن من الأجـانب .. ومـن الإيطاليات ..

***

وكانت تمر أمامنا أختان متشابهتان فى الجمال وطول القوام .. وكانتا أجمل من نرى من النساء ، وتبدوان متعاليتين .. فى أرستقراطية . وكنا نرى أن جمالهما الارستقراطى لاروح فيه .. ومع ذلك فقد كانتا محط أنظـار الرجال ، ولكن ما من انسان كان يجرؤ على الاقتراب منهما ..

وكان المكتب فى بور توفيـق .. والفندق الذى أقيم فيه فى السويس .. وفى شـارع السوق الرئيس .. وكنت أضيق ذرعا بالضجيج ، والحركة فى الشارع ، وركوب القطار كل يوم .. وأود لو أعثر على سكن فى بور توفيق .. ولكنها كانت ضاحية بنتها الشركة لموظفيها .. ومساكن الأهالى فيها قليلة .. وان وجدت بيتا صغيرا .. فليس معى عفش .. وتأثيث بيت حتى على أبسط صورة ليس بالأمر الهين على شاب مثلى راتبه صغير .. وكان جلال وهو فراش الخزينة ، والذى يرافقنى وأنا أحمل الصرة ، يعرف المشقة التى أعانيها من السكن فى السويس .. فأخذ يسعى منذ قدومى ليجد لى غرفة مفروشة ببور توفيق .. وأخيرا دلنى على غرفة عند سيدة أجنبية تسكن فى طرف هذه الضاحية .. وأوصانى وأنا ذاهب إليها أن أكلمها بلغة أجنبية حتى تتصور أننى أجنبى .. لأنها لا تسكن المصريين .. ومتى أدركت الحقيقة بعد أسبوعين .. تكون قد خبرت طباعى واطمأنت إلىَّ ..
وذهبت على هذا الاعتبار وقرعت بابها ..

وفتحت لى الباب .. نصف فتحة ، وكانت خارجة من المطبخ .. وترتدى مريلة على ثوب بنى قصير .. وكانت غير متزينة .. ولكنها تبدو مشرقة .. وقلت لها بالفرنسية عن بغيتى ..
فقالت :
ـ تفضل ..
وأرتنى الغرفة .. وكانت فوق مستوى أحلامى ..

ولكننى رأيت أن أستعمل المكر الريفى حتى لا أظهر لهفتى على الغرفة ..
ـ هل تدخلها الشمس ..؟
ـ شمس .. اننا فى الصيف ..!
ـ ولكننى أحـب أن أنام فى غرفـة تدخلها الشمس .. صيفا وشتاء ..
ـ تعال فى الساعة الرابعة لترى الشمس بعينيك تملأ الغرفة ..
ـ سأجىء ..

وقالت وأنا فى الطريق إلى الباب :
ـ من الذى دلك على الغرفة ..؟
ـ مسيو .. جورج ..
ولا أدرى لماذا اخترت هـذا الاسـم .. وخـفت أن تسألنى ..
" جورج من ..؟ "
ولكنها انقذتنى من الحرج .. بقولها :
ـ أتجلس عنده ..؟
ـ أجل ..

فأدركت أنه حلوانى أو صاحب مشرب فى السويس ..
وأطلت برأسها من النافذة ، وأنا أجتاز سور بيتها .. وقالت :
ـ ستأتى فى الساعة الرابعة ..
ـ بكل تأكيد ..
وفى مساء اليوم نفسه انتقلت إلى الغرفة ..

***

وكانت " مارينا " .. أرملة ، ترك لها زوجها فتاة فى التاسـعة من عمرهـا وطفلا فى الرابعـة .. وكانت الفتاة فى مدرسـة ايطاليــة بالسويس ..

***

ومر شهر .. ولم أكن أعير هذه المرأة .. التفاتة .. ولا كانت هى ..

ولكننى كنت قد غيرت طريقة حياتى ، فأصبحت لا أذهب إلى السويس إلا مرة أو مرتين فى الأسبوع ..

وكان " أمين " يجىء إلى بيتى .. وأخرج معه إلى الميناء .. وكان يلاحظ لانشات المصلحة وبواخرها .. والعمال فيها .. وكان المحرك للميناء .. والقوة الفعالة فيها .. ويعمل دون صراخ أو ضجيج .. وكانوا يأتون به فى أيام راحته .. ويوقظونه من نومه .. لأنه الإنسان الوحيد الذى يستطيع أن يحرك هذه الآلات الكهنة .. ويديرها وينفخ فيها من روحه ..

وكان لا يحب القبطان ولا وكيله .. ويكره كل إنسان يجلس إلى مكتب أو بين جدران أربعة .. ويقول عنهم أنهم جهلاء .. لا يعرفون الحياة لأنهم لايعيشونها .. وكان يغضب أشد الغضب عندما يراهم يخصمون يوما من بحار ، أو عامل انقطع عن العمل لمرضه .. ويقول ثائرا :
" هاتوه أمامكم لتروه .. واعرفوا حاله .. بدلا من تقرير مصير الناس على الورق " ..

ولم تكن المنازعات تنتهى بينه وبين الموظفين فى المكتب أبدا .. لأنهما كانا قوتين تتصارعان .. كان هو يعمل للخير والحياة .. وهم للروتين والعفن ..

وكان يسكر مثلى ، ولكنه لم يكن يسبب الأذى لأى إنسان .. وكان يدافع عن العمال ويتحمل كل ضروب العنت فى سبيلهم .. وكنت أصطفيه لأنه كان إنسانا ، وكان رياضيا .. يحب المشى والرياضة مثلى .. فكنا نقطع الطريق من بور توفيق إلى السويس سيرا على الأقدام .. وفى بعض الحالات نواصل السير إلى الأربعين ..

وكان يقرأ .. ويتحدث عن الأدب ، وأرى فى يده أكثر من كتاب لبروست وزولا .. وكنت أسأله :
ـ لماذا لايوجد أديب فى الشرق مثل جوركى .. أو دكنز .. أو همنجواى ..؟
ـ لأن الأدب عندنا ينفصل عن الحياة ..
ـ أليس للاستعمار .. دخل فى هذا ..؟
ـ ان الأدب يزدهر وينمو .. حيث القلق والاضطهاد .. ولكنا لا نعيش فى الحياة ولا نصل إلى أعماقها ..
ـ ألا نأمل فى المستقبل ..؟
ـ طبعا .. فمع كل المساوىء التى تراها فى الحياة والفن .. فنحن نتقدم .. ولكننا نعقد الحياة .. ونشوه وجهها الجميل .. وهؤلاء العمال الذين تراهم فى الميناء يمكن أن يوجد من بينهم مائة قارىء يقرأون ويسمعون الموسيقى على أحسن وجه .. لو هذبت مداركهم .. ورفعت مستواهم .. وجـعلت لهم فى هذا المكان قاعة للمطالعة ومثلها للموسيقى .. أنهم لا ينقصهم شىء .. عن أى إنسان أوربى ولكننا نشوه الحياة عندنا وننقص من قدرنا متعمدين ..

وقد رنت كلماته فى أذنى ، وحاولت من هذه اللحظة أن أعيش فى الحياة ..

***

وكان يجىء إلى بيتى فى يومى الخميس والأحد .. وكنا فى هذين اليومين نسهر ونسكر .. وكانت مدام " مارينا " تسهر معنا .. ونتحدث فى كل الشئون .. ولم أكن أدرى أنشأ بينى وبينها بعد هذه الشهور السبعة ما يشبه الحب .. ولكننى كنت أرتجف وأنا أراها كاشفة عن مفاتنها أمامى .. وكان من عادتها أن تغلق نوافذ البيت فى ساعة القيلولة ، وتسدل عليها الستائر ، وتلبس قميصا أبيض قصيرا ، كأنه مقطوع بمشرط فى نصف دائرة كاملة .. أو كأنها خلعته فى الجانب الأيمن من الكتف ، ونسيت الجانب الأيسر فتركته على حاله .. ثم تنساب فى البيت وهى على هذه الصورة وخصرها مائل إلى جانب .. وتوقظنى من أحلامى وهى تنحنى أمامى وتأخذ سيجارة من علبتى .. وتشعلها .. وتنفث دخانها .. وأنشق عبير أنفاسها .. وعندما رأتنى أقرأ كثيرا .. وأحبس نفسى فى الغرفة .. قالت لى وهى باسمة فى أسى :
ـ لماذا تتعب نفسك فى الدرس يا مسيو مراد .. هل تعد رسالة للدكتوراه ..
ـ اننى أقرأ لأتسلى ..
ـ أخرج إلى الشارع ، لترى الناس وتتمتع بالحياة .. لا تضيع شبابك هكذا ..

وأمسكت بيدى مرة .. وكنا ندفع السفرة إلى جانب الحائط ..
ـ أرأيت .. أثر الكتب على جسمك .. انك ضعيف محطم ..
وكأنما لسعتنى بسوط وعلا وجهى الاصفرار ..

وذات يوم من أيام الصرف للعمـال .. تأخرت فى استبـدال العملة .. الفضة فى المحافظة ..

وتعطلت بنا السـيارة فى الطريق إلى بور توفيـق فزادت الأمر سوءا .. وعندما وصلت إلى باب المكتب فى الساعة الثانية بعد الظهر .. كان آلاف العمال يقفون فى الشارع .. ويسدون علىَّ الطريق .. وفى عيونهم التذمر والقلق ..

ودخلت المكتب وأغلقت ورائى الباب .. كان لابد من عد الفضة قبل البدء فى الصرف .. وأخذ العمال يتصايحون فى الخارج .. ثم أخذوا يقرعون الباب بعنف وازداد الاضطراب والصياح .. وصحت فيهم وتوقفت عن العمل .. وزاد هياجهم .. وأفلت الزمام من يدى .. ومن يد القبطان .. وكل رجل مسئول فى الميناء ..

وهاجوا ودفعوا الباب بالقوة ودخلوا .. وكانت النقود مبعثرة على الطاولة .. وزاغت عيونهم .. واصفر وجهى ، وتقدموا فى هياج نحو الطاولة ..

وكنت واقفا وحدى .. وبجانبى الساعى .. ونحن نكاد نختنق ونتحطم ..

وفى تلك اللحظة الحاسمة .. سمعت صوت " أمين " خلف هذه الجموع .. ونظروا جميعا إلى الخلف ، وتسمروا فى أماكنهم .. ودخل يشق الصفوف .. وانقطع كل صياح .. وعاد السكون والنظام .. ووقف بجانبى وأنا أصرف لهذه الجموع ..

***

وسهرنا فى مساء الأحد مع " مارينا " كعادتنا .. وسكرنا ..

وكان من عادتها أن تجلس معنا بعد أن ينام طفلها ، وتذهب ابنتها إلى سريرها .. وتغلق عليها النور ..

ثم تقبل علينـا رشيقـة ضاحكة .. وقد ارتدت رداء بسيطا يبرز محاسنها ، ويزيدها جمالا ..

وكانت تدير الجرامافون وتدور علينا بالكؤوس .. وهى نشوى طروب .. ولما انتهت السهرة ونهض أمين ليذهب ، رأيت أن أرافقه إلى المحطة .. فقالت مارينا :
ـ سأخرج معكما ..

وخرجنا ثلاثتنا إلى الطريق .. وأحسست بالصفاء وبالسرور وبجمال الضاحية .. وجمال الطبيعة من حولى ، وجمال القمر ..

ولما أركبنا أمين القطار ، وعدت معها فى الشارع الذى على جانبيه الأشجار ، كنا وحدنا .. ولم نصادف إنسانا فى الطريق .. وكنا نسير متمهلين ..

وسألتها وقد شعرت بضربات قلبى تشتد :
ـ هل أنت مستريحة لوجودى فى بيتك ..؟
ـ طبعا .. انك فى غاية الأدب .. وأنا أستفيد منك ..
ـ كيف ..؟
ـ ايجار الغرفة .. والطعام ..

ولكن فائدتى أنا ليست مادية كما ذكرت .. فأنا أشعر معك بسعادة روحية .. سعادة من يحب ..
ـ يحب ..؟!
ـ أجل .. اننى أحب ..
ـ تحب من ..؟
ـ أنت ..
ـ هل أنت سكران ..؟!
ـ لماذا ..؟
ـ لأنك بدأت تهذى ..
وظهر على وجهها الغضب ..
ـ ألا أصلح للحب ..؟
وهزت كتفيها .. ولم تنبس ..

شعرت بمثل الدوامة تلفنى ، وبمثل موج البحر الذى بجوارى يدفعنى إلى بعيد ..
ودخلنا البيت صامتين ..

***

وكأنها شعرت بالخنجر الذى غرسته فى قلبى .. فقد أخذت تعاملنى بلطف ودون كلفة كأننى فرد من الأسرة .. وتطلب منى أن أساعد بنتها فى دروس المدرسة .. وتشركنى معها فى نقل الأثاث .. من غرفة إلى غرفة .. وفى تنسيق المائدة .. وتطلب منى أن أختار لون الطعام الذى أحبه .. ولكننى رغم هذا لم أتقدم نحوها بأية خطوة جديدة ..

***

وفى يوم الأحد التالى جاء " أمين " وسهر معنا كالعادة .. وكنا نتعشى عشاء بسيطا فى الصالة ونشرب النبيذ الإيطالى .. ونستمع إلى الموسيقى .. ولاحظت على المائدة .. وكانت " مارينا " تجلس بيننا .. أن يدها لامست يد " أمين " أكثر من مرة .. ولم أكن أعرف هذه الحركة جاءت منها عفوا ، أم متعمدة ..

ولكن لم يظهر على وجه " أمين " أنه أحس بيدها ، أو لاحظ منها هذه الحركة ، وعندما نهضنا عن المائدة وجلسنا .. ندخن فى الفراندة .. ذهبت هى إلى المطبخ لتصنع قهوة ومشيت إلى غرفتى لأجىء بعلبة السجائر .. ورأيتها وأنا راجع .. مقتربة منه وهو يدفعها عنه بلطف ..

وتأخرنا فى السهر ، ولما نهض أمين ليذهب إلى السويس .. خفنا أن يفوته آخر قطار .. فعرضت عليه أن يبيت .. وبعد الاصرار .. قبل ونام فى غرفة وحده ..
وذهب كل منا إلى فراشه ..

وفى آخر الليل تنبهت على حركة .. وسمعت صوتها .. وكانت تهمس فنهضت ومشيت نحو مصدر الصوت .. فرأيتها بجانب فراش " أمين " .. وهى حافية وبقميص واحد وصدرها كله عار .. وكانت تلتصق به ، وهو يدفعها عنـه بقوة ، ولكنهـا كانت تعاود الكرة ..
فغضب ودفعها بعيدا .. وأغلق عليه الباب بالمفتاح ..
وفى الصباح نهض قبل أن أصحو وذهب ..

***

ولم يأت إلى بيت مدام " مارينا " بعد هذه الليلة .. وقال لى معللا انقطاعه بأن بور توفيق هادئة .. أكثر من اللازم ولا تجعله يحس بالحياة فى الليل .. ويجب أن نغيرها .. فاخترنا مكانا آخر نمضى فيه السهرة ..
وسألتنى المدام ذات مرة :
ـ لماذا لا يأتى صاحبك الأعرج ..؟
ـ انه يتعب من المشوار ..
ـ ما الذى يعجبك فيه حتى تصاحبه .. ألم تلاحظ مشيته وهندامه وشكله القبيح ..؟
ـ ولكن النساء تحبه رغم هذا ..
ـ ان هذا أعجب شىء سمعته .. لابد أن تكن عاهرات ..
ـ وإذا لم تكن عاهرة ..
ـ تكون مخبولة .. فإن أى امرأة بعقلها تبصق على وجهه إذا اقترب منها ..

وكنت أعرف أنه جرح كبرياءها فى الصميم ، فلم أعجب وأنا أسمع منها هذا الكلام ..

***

وكنت أذهب إلى بيت أمين بعد الظهر .. إذا ما كانت لى حاجة فى السويس .. أو مررت على البنك ..

وذات مساء فتح شراعة الباب ولم تكن هذه عادته .. ولما رآنى ظهر على وجهه الاضطراب ، رغم أن وجهه لايعبر عن انفعاله .. وكان من عادتى أن أدخل توا إلى غرفته ..

ولكنه ابتدرنى بقوله وهو يشير إلى غرفة الجلوس :
ـ اقعد هنا يامراد .. الأوده ملخبطة .. وفيها بق .. الحمار ماجاش ينضف .. حالبس حالا ..

ومضت دقيقة وسمعت همسا ، وصوت أنثى ولغة أجنبية لا أعرفها .. ثم تحرك ظل امرأة فى الصالة وخرجت بخفة .. ولما أصبحت فى الطريق .. نهضت ونظرت من النافذة .. فوجدتها كبرى الأختين الارستقراطيتين اللتين كانت تتنزهان أمامنا فى طريق الزيتية ، ولا يجرؤ إنسان على الاقتراب منهما ..

***

وحدث عصر يوم من أيام الخريف أن جاء شاهين إلى البيت وهو مضطرب .. وطلب من " مارينا " أن توقظنى من النوم ..

وأخبرنى وهو يبـكى .. أن أمين سـقط وهو يركب القطار وهو يتحرك .. فى محطة بور توفيق ..

***

وعندما نقلناه إلى المستشفى .. كان أشق الأشياء على نفسه أن يراه الناس محمولا على عربة ذات عجلات ..

وقرر الطبيب اجراء عملية جراحية له .. ولكنه انتهى بعد نصف الليل قبل أن تجرى العملية .. ولما عدت إلى البيت .. كانت " مارينا " لاتزال ساهرة وفى عينيها بقايا من دمع ..

====================================
نشرت القصة بمجلة الجيل 8/8/1955 وفى المجموعة التى تحمل اسم القصة " وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من القنال " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006
====================================

ليست هناك تعليقات: