الجمعة، ٧ مارس ٢٠٠٨

من السويس ـ قصة الحياة

الحيــاة

قصة محمود البدوى

ذهبت إلى السويس منذ عشرين سنة فى مهمة مصلحية ، وشعرت بالانقباض وأنا أدخل بالقطار حدود المدينة ، فقد كانت المناظر كئيبة والفقر باديا .. ولكن بعد أن سرت على البحر وشاهدت بور توفيق تغير الحال ..

ووجدت رفقة فى العمل .. ندر أن يوفق إلى مثلهم إنسان .. وغرفة مفروشة فى أجمل بقعة فى المدينة .. وأخذت نفسى تتفتح للعمل والحياة ..

وكانت المدينة هادئة وصغيرة وككل الموانىء المصرية تكثر فيها المقاهى والحوانيت .. وكانت الرحلة فى القطار من السويس إلى بور توفيق ممتعة ..

وعبور البوغاز نزهة جميلة ومشاهدة السفن وهى تشق القناة منظرا يأخذ بالالباب .. ولم يكن العمل روتينيا .. كان أكثره يتصل بالسفن والبحر والشحن والتفريغ .. والحركة الدائبة فى الميناء ..

وكان المكتب على البحر مباشرة وبه خمسة من الموظفين من أعمار متفاوته ومن بلاد بعيدة عن السويس ..

وكنا نجتمع بعد الظهر فى قهوة ديانا بسكة الزيتية ولا يتخلف منا أحد .. ونكتفى بهذه المقابلة اليومية عن التزاور فى البيوت ، وكان المتزوجون منا يروحون بعد التاسعة ويبقى الآخرون إلى نصف الليل ..

وكانت الحياة بهيجة وحافلة بالمتعة رغم ضآلة أجورنا ..

وكنا فى الساعات التى نحس فيها بأن العمل يضغط على أعصابنا .. نرفع سماعة التليفون التى فى المكتب :
ـ عبد السلام .. كلم ..
ـ مين ..؟
ـ لشبونة ..
ـ لشبونة ..؟!
ـ أيوه لشبونة ..
وكان يتصورها مركبا يعبر البوغاز ..

فلم يكن قد بقى فى رأسه أى شىء من الجغرافيا التى تعلمها فى المدارس .. وكان بطىء الحركة بطبعه ..
ـ يا أخى اجرى عطلت الخط ..
ويصيح وهو يمسك بالسماعة :
ـ يا ريس محجوب .. قول للباشمهندس .. يطلع اللنش .. هما بس أول الشهر يجروا على الخزنة .. هى دى تكية المغاورى ..
وكان بينه وبين الباشمهندس عداوة لا سبب لها ..

***

وكنا نضحك خصوصا أنه ينسى فى زعاقه مع الريس محجوب حكاية لشبونة ..

وفى اليوم التالى يتذكر لشبونة فيمسك بالسماعة ، وقد نسى كل ما حدث بالأمس ..

وذات يوم صاح فينا وهو يمسك بالسماعة .. وكان ينظر من النافذة إلى القناة ..
ـ يا بهايم .. لشبونة آهى عدت البوغاز ..

ونظرنا إلى حيث يشير فوجدنا سفينة ضخمة تحمل اسم لشبونة .. وكانت تتهادى بعد أن عبرت القناة كالعروس ..

ونظرنا إلى السفينة مشدوهين وقد جعلنا هذا الحادث نكف عن السخرية به ..

***

وذات مساء لم يحضر زميلنا مصطفى القهوة ، وفى الصباح غاب عن المكتب ، فقدرنا أنه سافر إلى بلده طنطا ..

ولكن فى اليوم التالى وكان أول الشهر ، جاء خادمه الصغير يحمل منه ورقة ، وطلب النقود وكشف المرتبات ليوقع عليه فى البيت لأنه مريض وفى حاجة شديدة إلى الماهية ، ولكن الصراف رفض أن يسلم المبلغ والكشف للخادم وطلب التوكيل ..
وعاد الخادم كما جاء ..

ولما علمنا بالخبر تأثرنا .. وذهبت إلى الصراف فقبل أن يعطينى المبلغ والكشف ..

وذهبت إلى بيت مصطفى ، وكان يسكن فى بيت صغير بحى الأربعين ..

وصعدت السلالم ونقرت على الباب ففتحت لى شابة جميلة ..

وعرفتها بنفسى وغرضى من الزيارة .. فقالت برقة :
ـ تفضل ..
ودخلت على مصطفى فى فراشه .. وكانت حالته من السوء بدرجة أننى أمسكت بيده وهو يوقع على الكشف ..

ولم أكن أقدر أن مرضه بلغ هذه الدرجة فى مدة وجيزة .. فتألمت جدا ورأيت أن أبقى معه بعض الوقت ..

وأخذت أحدثه عن زملائه فى العمل ، وعن الأحوال .. وكان يفيق قليلا .. ثم يروح فى غيبوبة طويلة ..

وحمل إلىَّ الخادم الصغير الذى أرسلوه إلى المكتب فى الصباح ، القهوة ..

وكانت نجية .. جالسة فى الصالة .. بعيدا عن الباب ورأيت طرف ثوبها وأنا جالس يلاعبه الهواء ..

وهتف بها زوجها أكثر من مرة لتأخذ منه النقود التى حملتها له .. فدخلت مستحيية .. كأنما يحمى على خديها بالنار ..

وتناولت النقود وخرجت سريعا دون أن تبادلنى كلمة ..

وفى اليوم التالى زاره معى زميل من المكتب ، ولما رأينا خطورة حالته نقلناه فى الليل إلى المستشفى الأميرى ..

وسألنا نجية فى اليوم الرابع عن أسرة زوجها .. بعد أن تيقنا أنه مريض بالتيفود ..

وقالت لنا أنها تعرف أن له أخا يدعى بهجت يعمل فى شركة حلج الأقطان بكفر الزيات ولم يحدثها عن سواه ..
فأرسلنا له برقية ..

فجاء بعد يومين وزار مصطفى فى المستشفى ، ثم سافر فى اليوم نفسه . فقد وجد الحالة فى تحسن والحرارة انخفضت .. وكانت أعماله لا تسمح له بالتغيب أكثر من هذا النهار ..

وأصبحت نجية وحدها بجانب زوجها .. وأشفقت عليها من زياراتها اليومية فى هذه الحرارة الشديدة وطلبت منها أن تقلل من الزيارة حرصا على صحتها ..
فقالت لى والدمع يجول فى محجريها :
ـ ازاى .. لازم نشوفه كل يوم ..

والواقع اننى لاحظت أنها تحبه حبا شديدا رغم أنهما كانا متزوجين حديثا ، والزواج لم تتعمق جذوره .. ورغم الفارق الكبير فى السن .. فقد كان فى سن والدها ..

وكان كل من يراها معه يتصورها ابنته وليست بزوجه ، وكان مصطفى رجلا طيبا ويعمل طول عمره فى البحر .. لم يخرج من الموانىء المصرية الثلاثة ..

وقدرت أن نجية من رشيد .. فقد كانت بشرتها تتغذى بالسمك ..

وكان الرجل طيب المعشر ، قانعا بما وصل إليه فى حياته .. قانعا بجنيهاته القليلة ، وأحسبه كان يعتقد أن الله أعطاه نجية ليحرمه بسبب هذه النعمة من أشياء كثيرة ..

وعندما كان يهذى من فرط الحمى كانت تسعة أعشار كلماته تدور حولها ..

وكنت أراها عنده كلما جئت ، وأشفق عليها من زيارة مثل هذه المستشفيات ، وأشفق عليها من وحدتها فى البيت .. وأسفت لأنه لاتوجد لى زوجة أو قريبة فى مدينة السويس لتؤنس نجية ..

ولم أرها فى المستشفى يومين كاملين ، ولم أسأل مصطفى عنها حتى لا أشغله بها .. أو بأى شىء خارجى ..

وبعد أن خرجت من المستشفى ركبت القطار إلى السويس .. وكانت الساعة السادسة مساء ..

***

فاتجهت إلى بيتها ..
ووجدتها فى البيت .. وكنت أود أن أكتفى بالسلام على السلم .. ولكنها استحلفتنى أن أدخل لأشرب القهوة .. فدخلت وذهبت إلى المطبخ ، وعادت بعد قليل تحمل الصينية على يدها ، وكانت فى ثوب البيت البسـيط ، وشعرها الأسود يغطى جبينها وفى عينيها الذبول الآسر ..
وقلت وأنا أرتشف القهوة :
ـ من يومين .. لم أرك .. وخفت أن تكونى فى حاجة إلى شىء ..
فقالت ضاحكة :
ـ هو أنت حتعول مين .. الست ولا جوزها ..؟
فابتسمت ..

وكانت جالسه فى الصالة وعلى رأسها وشاح حريرى وقد أعطتنى جانب ظهرها ..

وطال رشفى للقهوة .. ونظرت إلى بيت نجية لأول مرة .. إلى أثاثها البسيط ، وإلى حسن تنسيقها للأشياء .. وقدرت أنها ست بيت من الطراز الأول ، ومذ دخلت والباب الخارجى مفتوح .. ولا أدرى أنسيته سهوا أم تركته عن عمد .. وأحسست بأنها وحيدة .. وأنها تقضى الليل وحدها فى هذا المكان ..

فقلت :
ـ لماذا .. لا تأتين .. باحدى قريباتك لتعيش معك حتى يخرج زوجك من المستشفى ..
ـ الجيران كويسين ..
ـ لكن وحدك .. حاجة تخوف ..!
ـ تفتكر .. حنجيب مين .. مفيش حد .. متعوده على كده .. كان مصطفى بيسافر كثير ويروح الفنارات ، وكنت بنام لوحدى ..
ـ لازم بتحرسك الملائكة ..
ـ يمكن ..!
وضحكت وسألتنى :
ـ حضرتك تعرف مصطفى من زمان ..؟
ـ من ستة شهور بس ..
ـ أمال أنا متهيأ لى أنى شفتك قبل كده ..
ـ يمكن فى رشيد ..
ـ عمرى مارحت رشيد ..!

ونظرت إليها طويلا وكنت أود أن أسألها ، من أين لك هذه البشرة الناعمة وهذا الصفاء إذن ..
ووضعت الفنجان من يدى ونهضت ..
فقالت ببراعة :
ـ مش حاقدر أقول لك خليك لما نعشيك ، علشان النهاردة معنديش أكل ..!
ـ لما يخف مصطفى تعملينا عزومة .. بس لازم تأكلى معانا ..
ـ طبعا ..
وضحكت ..

***

وتحسنت صحة مصطفى ، وظهر الأمل والفرح على وجه نجية .. وشعرت بالحياة .. فأخذت تتزين وتتأنق فى ملبسها .. والتقيت بها عصر يوم وهى خارجة من باب المستشفى وكانت مجلوة .. ترتدى فستانا طويلا من الحرير المشجر ، واسع الأكمام ، واسع الذيل .. وبدت كالطاووس وهى تهبط الدرج ..

وسقط شعاع الشمس على عينيها الذابلتين ، فاتقته بيدها .. لترانى وأنا أقترب ، وابتدرتنى قائلة :
ـ مصطفى كويس النهارده خالص ..
ـ مبروك .. الحمد لله .. حنتفق مع الدكتور على ميعاد الخروج ..
فسرت أكثر ..

ولكن فى اليـوم التـالى ، ارتفعت درجة حرارته فجأة ، وعاد يهذى ..

ولم تكن زوجته بجانبه فى تلك اللحظة ، ونصحنى الطبيب بأن أستدعيها فى الحال ، وشعرت بالدنيا تسود أمام عينى ، وبالغمة وبالبياض يتحولان فجأة إلى سواد ، ولم أستطع أن أغير مظهرى وأنا أنقر على بابها ، فقد قرأت فى وجهى نذير الشؤم ..
ـ مات ..؟
ـ أبدا .. عاوزينك فى حاجة بسيطة ..

مشت مضطربة فى الصالة رائحة وغادية ثم ارتدت ملابسها على عجل وخرجت معى .

وكان القطار الذاهب إلى الأربعين قد انقطع .. فركبنا عربة أجرة وركبت بجوارها لأول مرة ، وكان يمكن أن نغير وجه الخيل .. وأن ننطلق بالعربة كعاشقين فى سكة الزيتية ، وعلى شمالنا البحر .. وعلى يميننا الصحراء .. والظلام يطوينا .. والسكون يلفنا .. ونسمع خرير الموج .. ونتطلع إلى القمر الذى مازال فى الغيب .. كان يمكن أن يحدث هذا لو لم تكن بجوارى زوجة صديق .. والصديق راقد فى المستشفى بين حى وميت ..

لاحظت أنها استعادت بعض هدوئها ، عاد لونها يرق ، ولم تكن تحس أبدا بأنها تجلس مع رجل غريب .. وللحياة أسرار لاتحيط بها العقول ، فإن هذا المشوار القصير بالعربة ذات الطراز القديم ، قد رسم خط حياتنا ، وطارت كل أحلام اليقظة سريعا .. عندما تخطينا عتبة المستشفى وعلمت من التمرجى أن مصطفى انتهى منذ لحظات ..

وتركتها على دكة خشبية تبكى .. ولم تكن المسكينة تستطيع وحدها فى هذا البلد الغريب أن تواجه العاصفة .. تحملت عنها العبء كله .. وكان أول شىء فعلته أن أرسلت برقية لأخيه بهجت .. ثم شرعت فى اجراءات الدفن ونقل الجثة ، فقد أصرت نجية على أن تدفنه فى بلده حتى وإن لم يحضر أخوه .. وبقيت معها فى المستشفى إلى الصباح ، وقبل الظهر كنت أتمنى لو لم أولد وألا أكون موجودا على ظهر الأرض ، من تعقد الاجراءات ..

فأنا الذى لم أكن أعرف كيف استخرج لنفسى شهادة ميلاد .. أقوم بنقل ميت بالحمى من السويس إلى طنطا ..

ولما حضر أخوه ، كانت كل الاجراءات قد تمت ، فتركناه يحمله فى القطار ..
وركبت نجية فى ديوان السيدات ..

وشعرت بعد أن تحرك القطار بالأسى .. ولم يكن ذلك لحزنى على المرحوم ، فقد أنسانى التعب الذى لقيته فى سبيل دفنه كل الأحزان على الموتى ..
ولكنى حزنت لأنى تركت نجية وحدها ..

***

وعادت بعد أسبوع لتأخذ عفشها ، وبعد أن نقلناه إلى المحطة ، قلت لها :
ـ اعطينى العنوان .. وسافرى .. فلست فى حاجة لأن تتحملى متاعب الشيالين ..

وأنزلتها فى قطار العصر .. وأمسكت بيدها كالمأخوذ وأنا لا أشعر بشىء .. ولكنى تنبهت على ضغطة منها على راحتى ، وقبضة بكل ما فى أصابعها اللينة من قوة .. ولما نظرت إلى عينيها أطرقت .. وكان القطار يصفر ..

ولما خرج من المحطة ، وجدت نفسى أود لو أجرى وراءه على القضبان .. ولكن كان كل من فى المحطة .. فى هذه المدينة الصغيرة يعرفنى ..

فدخلت حجرة الناظر أوصيه بشحن العفش فى عربة نظيفة ..!

***

ولم أجلس على القهوة كعادتى مع الرفاق .. ذهبت إلى البيت .. وشعرت لأول مرة فى حياتى وأنا فى هذه المدينة بالكآبة التى شعرت بها وأنا أدخلهـا منذ سنة كاملة ، وأخرجت الورقة التى كتبتها لى نجية بخطها ، وقرأت العنوان مائة مرة ، ولم أكن فى حاجة لأن أعيد قراءته لأستظهره وأثبته فى الذاكرة .. فلم يكن يعنينى فى الحياة شىء سواه ..

وتفجرت كل مشاعرى ، وأحسست بعواطف الشاب الذى يحب لأول مرة إلى درجة الجنون ، وبقدر كتمانى هذه العواطف وتحويلها أمام أنظار الناس حتى يحسبوها من المشاعر العادية .. تفجرت الآن واندفعت كالموج العاتى وظهرت على حقيقتها ..

وخيل إلىَّ أن ضربات قلبى تنطق باسمها فى كل حركة أحس بها ..

ونظرت إلى سمـاء المدينة من النافذة .. وإلى البحر .. والموج والحياة .. والناس .. وعجبت لتغيير كل شىء فى لحظة ..

***

وبعد أن شحنت العفش .. أرسلت لها بوليصة الشحن فى رسالة قصيرة ، فردت علىَّ شاكرة فى أربعة سطور ، وتبينت فى هذه الرسالة وجه الأرملة ..

وفى الشهر التالى ، ركبت القطار إلى الإسكندرية ، وفى محطتها ذكرت العنوان للحوذى .. فأنا لا أعرف شيئا عن هذه المدينة .. ودار بى فى عدة شوارع وحوار .. وأخيرا اهتديت إلى البيت ..

ورأيت نجية .. فى السواد .. وقدمتنى إلى أمها المسكينة وأختها الأصغر منها ، وهما كل أسرتها ..

وسرت كثيرا من زيارتى لأنها لم تكن تتوقعها ، ورأيت الطيبة على الوجوه الثلاثة ..

كما رأيت بساطة الناس الفقراء وطيب معدنهم ، وأخذت نجية تحدث أمها بما فعلته لها وأنا فى السويس ، وكنت أطرق خجلا ..

وأقسمت الأم أن أبقى للعشاء ، فقبلت ، لأنى كنت أحب أن أمكث أطول مدة مستطاعة مع نجية ..
وقلت لها وأنا أنظر إليها طويلا :
ـ يعنى خسيتى ..
ـ وأنت كمان خسيت ..
ـ جعان ..
فقالت بلباقة :
ـ ليه .. أكل " كرياكو " مش كفـاية .. أنت لسـه بتأكل عنده ..؟
ـ أمال حاكل فين .. أنت عارفه السويس ..
وقلت وأنا أنظر إلى المصابيح وقد أضيئت فى الشارع :
ـ على فكرة .. حيكم .. دا .. يتوه .. ولولا الورقة فى جيبى .. مش ممكن كنت أعرف البيت ..
ـ أنا نفسى بتوه .. تهت وأنا راجعه ..؟
وضحكت وقلت :
ـ وعلشان كده .. لازم .. أخدك معايا .. المرة دى مش حسيبك أبدا ، لأنى مش حاعرف آجى تانى ..
ـ ازاى .. ؟
ـ نجوز الليلة ..
فضحكت حتى سمعها من فى البيت
ـ تعرف لو عملنا كده ..؟
ـ ايه ..؟
ـ نتحبس .. احنا الاثنين ..
ـ ليه ..؟
أنت باين متعرفش حاجة عن شهور العدة ..
ونظرت إليهـا فى استغراب .. ولما فهمت المسألة ، ضحكت لجهلى ..

واتفقنا على الزواج بعد ثلاثة شهور أخرى .. بشرط أن أنتقل إلى الإسكندرية .. أو بور سعيد .. لأنها لا تستطيع أن تواجه الناس فى السويس كزوجة لى ، لأنهم سيتصورون أنها كانت معشوقتى ، وهى فى عصمة المرحوم ..

***

وتم الزواج فى بساطة .. وانتقلنا إلى بور سعيد .. ولاحظت أنها لم تفرح لهذا الزواج .. كانت لاتزال حزينة ولابسه السواد ودائمة التفكير ..

ولما كنت أعرف أنها كانت تحب زوجها الراحل حبا شديدا ولمست ذلك بنفسى .. فقد تركتها .. وكنت أقدر أن الأيام كفيلة بأن تمسح هذا الحزن ..

ولكن كان يغيظنى هذا السواد الذى تلبسه ، وأننى كلما اقتربت منها نفرت منى ..

وسألتنى ذات ليلة بعد العشاء ، ودون تمهيد للسؤال كعادتها :
ـ منير .. هل كنت تشتهينى وأنا فى عصمة رجل آخر ، أن هذا الخاطر يعذبنى ..؟
ـ وكيف تفكرين هذا التفكير ..
ـ أن نظراتك كلها .. كانت تدل على الاشتهـاء المحرم .. وأنا
زوجة صديق لك .. هذا و ..
ـ اسمعى ان أعصابك منهارة .. فلماذا تعذبيننى بهذه الأسئلة السخيفة ، هل فعلت شيئا هناك ..؟
ـ أبدا .. ولكنك كنت تنتظر ، وتجزم بأن الفرصة آتية ..
ـ ان هـذا تفكيرك .. وليس تفكيرى ، وعلى فكرة .. أنا مسـافر .. يوم الاثنين .. على الباخرة عايدة إلى البحر الأحمر ..
ـ كيف .. وتتركنى وحدى ..؟
ـ سأذهب إلى الناس الذين يعيشون فى الفنارات مع السمك .. والبحر .. والليل والظلام .. بعيدا عن الحياة .. والنساء .. لقد أصبحت وأنا على الأرض مثلهم .. ولمست عذابهم ..
ـ اذهب .. ومن يمنعك .. وإذا راقتك الحياة هناك .. فابق ..
ـ سأذهب ..
وفى فورة غضب تركت البيت وذهبت أتمشى على البحر ..

ولما عدت قبل منتصف الليل .. وجدتها قد خلعت السواد وجلست فى قميص أبيض أمام المرآة تمشط شعرها ..
====================================
نشرت القصة بمجلة الجيل فى عددها رقم 298 بتاريخ 9/9/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من القنال " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006
====================================

ليست هناك تعليقات: